من يفكّك النفس البشرية؟

يبلغ تعقيد النفس البشرية حد الغموض والإبهام، الذي أزعم أن علم النفس لم يكشف عن أسرارها تماماً، فما سُبر حتى الآن من نوازع ودوافع واستجابات وما ينتج عنها من سلوك، لا تمثل شيئاً يذكر من ملايين التعقيدات الصغيرة المبهمة، وما كُشف حتى الآن برأيي هو الأوضح من ناحية والمشترك العام من ناحية أخرى، فالنفس البشرية تشبه جبل الجليد، فما نعرفه عنها هو الجزء الصغير الظاهر للعيان وما لا نعرفه ظل تحت السطح.

وكل ما يتعلق بمشاعر الإنسان يتسم بالنسبية، مثلها مثل الأخلاق والمُثل والقيم، فهناك استجابات متضخمة وهو ما يطلق الناس على هذا الإنسان وصف «حسّاس»، وهناك استجابات لا مبالية لنفس الحدث، وبينما يعتبر البعض الحساسية شكلاً من أشكال الضعف بل والعيب أيضاً، يرى البعض أن هذه الحساسية ميزة إذا ما وظّفت توظيفاً خلاقاً مثل الإبداع الفني والأدبي، فما يراه الإنسان أمراً عادياً لا يستحق التوقف عنده مثل منظر شروق الشمس أو غروبها أو غيرهما، وما تشكله مع الغيوم من تشكيلات جمالية يراه الإنسان «الحساس» منظراً يأخذ بالألباب، وبينما يرى الإنسان العادي الأمور بعموميتها، يدقق الحساس بالتفاصيل الصغيرة، أو كما يقال يرى ما لا يراه الآخرون.

لكن هذه الحساسية أو الاستجابة الحادة والمتضخمة، قد تشكل مشكلة نفسية عند من يستخدمها سلباً أو ضد نفسه، فيصور له خياله الواسع وتركيزه الشديد أموراً افتراضية غير واقعية، مثل المخاوف الافتراضية غير الموجودة، ويأخذ الأمور بسلبية من الكلمة والإيماءة والحدث اليومي وبشكل غير موضوعي أو غير عقلاني وباعتقاد راسخ.

وإضافة إلى الاستجابات الداخلية التي تؤذي الإنسان ذاته، هناك استجابات داخلية تؤدي إلى إيذاء الآخرين ومشاعرهم حتى عند حدودها الدنيا، مثل الكراهية والأنانية والغيرة والريبة المرضيين، وما ينتج عن ذلك من محاولات تحجيم الآخر والسيطرة عليه والاعتقاد أنه الأفهم والأعرف والأفضل، ولكن هذا الشخص المتسلط قد يتحول إلى ضحية ويتألم من محاولات الغير لتحجيمه، وينسى أنه كان في نفس هذا الموقع، ورغم نسبية المعرفة نجد أن كثيراً من الناس يعتقدون أنهم وحدهم من يملك الحقيقة ويرى نفسه على صواب.

ويلعب تراكم الوعي والخبرة الحياتية والتدريب الذهني والسلوكي المستمرة، دوراً في تغير القناعات والنزوع نحو الواقعية والموضوعية والعقلانية، التي قد تحدث بشكل تلقائي مع مرور الزمن والتجارب والخبرات، أو قد تحدث بشكل مقصود بمعنى الرغبة والحاجة والسعي إلى التغيّر.

ولشدة تعقيد النفس البشرية أظن أن الدراسات النفسية النظرية والمختبرية والسريرية، لم تتوصل إلى كنهها وتفاصيلها وتنوعها، بينما استطاع الأدب ودون وعي من الكاتب إلى سبر أغوار النفس البشرية بدرجة كبيرة دون تفسير أو تحليل، وكلما زادت خبرة الكاتب كلما عكس فهماً أكبر وأعمق للإنسان ونفسه وسلوكه، ولعل من أبرز الأدباء في هذا المجال هو الأديب الروسي الكبير دستيفسكي.

وأخيراً تلعب الظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافة المجتمعية العامة، والموروث الذي قد يمتد إلى قرون ماضية أو إلى المراحل البربرية للبشرية في تشكل هذه النفس البشرية أو السيكولوجية، ولكن بلبوس عصري ومفردات «حداثية».

وفي ظني أن أكثر من أساء إلى علم النفس الذي يعتبر علماً حديثاً نسبياً هو سيغموند فرويد، إذ استند في تحليله للأمور إلى مبدئي اللذة والألم، وأرجع جميع الأمور إلى الدوافع الجنسية، ولأنه كان فارساً شبه وحيد في مجاله تبعه العديد من التلاميذ والمريدين، ورغم أن علم النفس قد تجاوز الكثير من مفاهيم وتحليلات فرويد، إلا أنه ما يزال يدرس في الجامعات العالمية والعربية.

فمتى يأتي من يفكك النفس البشرية، ويضع علم النفس على سكته العلمية السليمة؟

وليد الرجيب

osbohatw@gmail.com

Leave a Reply