مشكلة المرأة" والمثقفون في متغيرات العقود الأخيرة (3 – 4)

نيّره توحيدي

المرأة "ذات النزعة الغربية" وأزمة الهوية
لا يقتصر الأمر على المثقفين القوميين المعارضين في إيران في قولهم أن وظيفة المرأة هي الحفاظ وحراسة السنن والثقافة والهوية القومية. إذ أن منظري نظام الشاه وحماته من المثقفين أكدوا على أن دور النساء يتحدد في مهمة أساسية هي "الحفاظ على الوحدة الوطنية والاستقلال". فعلى سبيل المثال، يشير الدكتور ظفردخت أردلان الاستاذ الجامعي وعضو المجلس المركزي لـ" منظمة النساء الإيرانيات" في فترة نظام الشاه، في مقالة له تحت عنوان"دور المرأة الإيرانية في الوحدة الوطنية واستقلال إيران" قائلاً:" كانت المرأة الإيرانية على الدوام مثالاً للتضحية واللياقة لأولادها، امرأة مضحية لزوجها، وبنت مطيعة ومستقيمة وعلى علاقة بأبيها وأمها، وعضو يفضل مصالح العائلة على مصالحه الشخصية. ولكن المرأة الإيرانية كانت تقدم وعلى الدوام مصالح البلاد والوطن على مصالحها الشخصية والعائلية وأعزائها. وكانت علاقتها وحبها للوطن أرفع من علاقتها بالابن والزوج والأم والعائلة. أي كلما طرحت المصالح العليا للوطن العزيز إيراننا وما تفرضه الأوضاع المستجدة على بساط البحث، فإن المرأة الإيرانية تدوس بقدميها على مصالحها ومصالح الابن والزوج والأم والعائلة، وتقوم بواجبها الوطني بكل شجاعة وعلى أفضل وجه".
وهنا أود إثارة انتباه القارىء إلى نقطتين مخفيتين في هذا الكلام وهما:
ألف) التضحية والفداء والطاعة عند المرأة حيال عائلتها باعتبارها جزء من فضائل وضروريات المرأة الفاضلة، التي كما أشرت إليها آنفاً في البحث ما هي إلاّ تأكيد على قضية أخر يؤكد على نفي الفردية والنمو الذاتي للمرأة، وكيفية النظر إلى المرأة كجزء تابع وملحق بالعائلة يتوجب عليها "الطاعة والفداء"، امرأة تضحي بفرديتها وميولها خدمة لمصالح ولمنافع العائلة، وليس باعتبارها مواطنة مستقلة وقائمة بذاتها. فالمناسبة الوحيدة التي تتغاضى فيها المرأة عن مصالح العائلة، برأي الكاتب، هي عندما تطرح المصالح القومية والوطنية على جدول العمل. بالطبع ما يعنيه الكاتب بالمصالح القومية والوطنية هو أن وجود المرأة ضمن وضعها الاجتماعي ونسبها يشكل عامل بقاء وثبات للبلاد، واستمرار الكثير من المناصب والمشاغل ومن ضمنها بقاء الملكية والحكام في تلك الفترة.
وهذا يعني أن على المرأة في دولة الشاه على سبيل المثال أن تلعب دوراً في "استمرار واستقرار" المناصب والمشاغل للعائلة والمجتمع ومن ضمنها مكانة "الملكية والحكم". ولابد الآن وفي ظل الدولة الإسلامية، فيجب أن ينصبّ دور المرأة على حماية "الإسلام" واستمرار حكم الإمام ورجال الدين. وخلاصة القول فإن على المرأة أن لا تأمل بتغيير وتحول في العلاقات، بل مهمتها تتحدد في حماية العلاقات الدارجة ونقلها إلى الأجيال القادمة. وعند المقارنة، يتبنى أحد أبرز المثقفين المعارضين للشاه وهو جلال آل أحمد عقائد مشابهة، حيث أشار في مقالته "النزعة الغربية" إلى أننا قد:" قدنا المرأة، حافظة السنن والعائلة والجيل والدم، إلى جادة الضياع وإلى الشوارع وإلى المظاهر والانحلال و..". ولم يتردد حتى رضا براهني الذي يُعتبر أحد نوادر المثقفين الذين احتجوا على ذكورية التاريخ والأدب والثقافة في إيران وحلل ذلك بشكل جيد، ولكنه يبتلع للأسف الطُعم بدون وعي ويؤكد على الضعف الذي طرأ على دور المرأة المدينية الإيرانية بسبب الخلل في أساس محدودية دور المرأة في إطار العائلة ويقول:" إن المرأة الإيرانية في العصور الماضية...على الأقل، وحسب روايات الحكايات القديمة، كانت أم بيت جيدة وعطوفة وخالية البال وسبّاقة إلى التضحية للمحيطين بها. ولكن المرأة في المدينة متجردة أضحت من كل هذه الصفات الإنسانية..".
ومن المثير أننا قد لا نجد من يتحدث من مثقفينا عن الرجل المديني بدعوى تجرده من "الصفات الإنسانية البسيطة". والسبب كما يبدو أن فقدان مثل هذه الصفات البسيطة لا يتعلق إلاّ بالمرأة فقط. وفي هذا الإطار يصف أحد المثقفين الوطنيين البارزين المعاصرين وغير المذهبين وهو صادق هدايت المرأة بشكل مشابه ويقول:" المرأة حامية السنن والهوية القومية". إن صادق هدايت، وعلى الرغم من تصويره للمظالم الشنيعة والحرمان والتخلف الذي تعاني من المرأة في قصصه، إلاّ أنه من النادر أن يشير إلى وجه إيجابي للمرأة أو الإشارة إلى العلاقات السليمة والسعيدة التي تتسم بالحب بين المرأة والرجل. ولعل واحدة من نوادر قصص صادق هدايت التي يقدم فيها صورة إيجابية للمرأة هي "پروين". ولكن حتى في قصته " پروين ابنة الساسان"، يرى صادق هدايت إن سبب أهمية وإيجابية دور پروين يتمحور حول وفائها لپرويز (زوجها) وأبيها (ساسان) ثم وفائها لترة إيران وثقافتها وبشكل مبهم. وللأسف إننا كلما تمعنا في بطون الأدب الإيراني، فمن النادر أن نعثر على وجه آخر للمرأة، أي دور يشابه الرجل وخال من دوره الجنسي (المعشوقة والزوجة والأم).
وفي إطار هذا النمط من التفكير والتوقعات حيال دور المرأة، وعندما تخرج المرأة المدينية خارج حدود مهمة حفظ السنن، فسيكون من المحتم أن تتجه نحو التجديد والتغيير في أساليب الحياة، بل وأنها حتى تسبق الرجل في ذلك، وعندها تتحول المرأة إلى "مشكلة". ويبدو أن تحطيم التقاليد، وقبل كل شىء كسر تقاليد الرجل، يوجه صفعة إلى الموجود الثقافي، ويجلب عواقب جدية ويشكل عاملاً مهماً في التشتت الثقافي التقليدي وفي التبعثر والتفتت المفاجىء لمنظومة القيم، أي أزمة الهوية. وتعتبر هذه الأزمة أحد الأبعاد المهمة في علم النفس الاجتماعي في إيران في العقود التي سبقت الثورة الإيرانية. لقد أدرك المثقفون الإيرانيون بشكل أكثر من بقية المكونات الاجتماعية هذا التشتت الثقافي وضياعهم والشعب عموماً، وراحوا يفتشون بألم عن هوية "مناسبة وشاملة"، ومازال هذا البحث مستمراً إلى الآن.
لقد بحث مثقفون مثل جلال آل أحمد وعلي شريعتي عن هذه الهوية. وقام رضا براهني بنفس المسعى مع قدر من التفاوت حيث أشار:" أننا نعيش في مرحلة من التشتت الثقافي...ومازلنا معلقين بين القرن الرابع عشر الهجري وبين القرن العشرين الميلادي، وتتعرض جذورنا الداخلية الاجتماعية منها والثقافية إلى تهديد دائم. وإن مصدر هذا التهديد هو الموقف غير الناضج واللاشعوري والأعمى حيال العالم الغربي، عالم الصناعة وعالم الاستعمار الغربي.".
وتعاني المرأة المثقفة بشكل أكثر من الرجال من حالة الضياع و "انعدام الهوية". فبدلاً من أن تقوم مثل السابق بدور "حامية السنن"، إلاَ أنها أخذت تغيّر دورها وشكلها بنحو أسرع من الرجل. ويشير رضا براهني في هذا الصدد وضمن انتقاده "لذكورية نهضة المشروطة وخلوها من المكتسبات بالنسبة لحقوق المرأة"، إلى أن السيطرة التاريخية للرجل أدت إلى أن لا تجد المرأة تصويراً ونموذجاً يناسبها لا في التاريخ ولا في الكتب المدرسية ولا في الجامعات. فلا تمتلك المرأة ثقافة ونموذج محلي لها. ولذا فهي مضطرة إلى التسليم بالثقافة الغربية المستوردة، وتتمسك بالنزعة الغربية أكثر من الرجل ذي النزعة الغربية، وأقل جذرية وأقل تعبيراً وأقل ثقافة وأكثر اغتراباً.
إن النقطة الأساسية التي أود الإشارة إليها هنا هي ليست كون امرأة أكثر ميلاً "للنزعة الغربية" من الرجل الإيراني، ولكن أود القول إن معايير متفاوتة قد اعتمدت من أجل قياس انعدام الهوية لدى المرأة والرجل أثناء النضال ضد الملكية وضد الامبريالية في العقود السابقة. واعتُمدت معايير متفاوتة للخروج من أزمة الهوية بالنسبة للمرأة والرجل. فإذا ما جرى البحث في "النزعة الغربية" للرجل في ميدان الاقتصاد والثقافة والسياسة والأدب والأيديولوجيا، فإن النزعة الغربية للمرأة قد نجدها أساساً كمحك في الملبس والظاهر الخارجي للمرأة وكيفية التزيين وفي التصرفات والسلوك الاجتماعي ونوعية وحدود مشاركتها في المجتمع وقلة تبعيتها للعائلة وتراجع تضحيتها ونكرانها للذات. إن الحملة على النساء من ذوات "النزعة الغربية" في أكثر الأحيان لا يعود إلى الفشل الثقافي والاستسلام السياسي والعقائدي والاقتصادي للأمبريالية بمفهومها الدقيق( وليس بالغرب بمعناه غير الواضح والمبهم)، بل كانت بسبب التغيير في السلوك الاجتماعي والتصرفات الجنسية وظاهرها، أي في إطار الأخلاقيات الجنسية والعلاقات الجنسية. وللأسف لا ندري لماذا يتحدد المثقفون فقط بهذا الحيز في التعريف.
إننا لو استعرضنا قصص المؤلفين منذ المشروطة وحتى عقد السبعينيات من القرن الماضي، على سبيل المثال، لوجدنا أن مقولة "النزعة الغربية" قد أدت إلى زيادة الحملة على النساء وزيادة الصورة السلبية والمتشائمة عن المرأة المدينية، والتأكيد على دورها ومسؤوليتها في اثارة الأزمة والانحطاط الاخلاقي في المجتمع. وخلاصة القول، فإن الصور والنماذج الأصيلة التي تبلورت عن المرأة في القصص والحكايات الإيرانية اتخذت في العادة بعداً واحداً. فهي فاقدة لشخصية إنسان متكامل ولهوية اجتماعية مستقلة، وإن وجودها يتعلق بتبعيتها للشخصيات الرجالية. وإذا ما عثرنا لها على دور الشخصية الأولى في القصة، فيجري التأكيد على أن المرأة تبقى على الدوام محتفظة ببعد جنسي وخصوصيات وممارسات بدنية وجسمانية وعاطفية. فبالإضافة إلى الصور الجذابة وصورة الأم المتداولة على نطاق واسع، يجري في بعض الأحيان تصويرها بصور المرأة الجميلة المعصومة والطاهرة والعذراء والشابة والمبالغة بذلك إلى حد أن تتحول طهوريتها ومعصوميتها إلى موجود أثيري ونادر وغير واقعي. أو نرى أحياناً العكس حيث تتحول المرأة إلى موجود يثير الفتنة والشهوة والفحشاء، وموجود مهوس بلا قيد وشخصية منحطة تسبب انحطاط المجتمع وانهيار التقوى والأخلاق عند الرجال.( ممكن ملاحظة صورة كلا النموذجين في قصة صادق هدايت "البومة العمياء"(بوف كور). وهناك صورة أخرى للمرأة في القصص، أي صورة نساء جميلات عديمات الوفاء وقساة القلب وظالمات وبلا رحمة، وموجودات ماكرات ومتآمرات وعلى شكل ثعابين ومرموزات يبعثن الشؤم، إلى جانب صور أخرى سلبية للنساء لا تجلب إلاّ الآلام والأذى للرجال في هذه القصص. وفي مناسبات كثيرة أخرى يجري تصوير النساء كزوجات عطوفات وخادمات وفيات وسيدات عفيفات ومتسامحات، ومظهراً للتحمل والصبر والطاقة، أي مفتاح لصبر الرجال. ولكن هؤلاء النساء لا ينتظرهن مستقبل حسن، فالرجال إلى جانبهن في هذه القصص يعيشون عيشة متعبة ومملة ورتيبة، ويهربون على الأغلب من بيوتهم مما يدفع هؤلاء الزوجات "النجيبات" إلى درب الخيانة الزوجية. ونرى أحياناً صورة متداولة أخرى للنساء ضحايا ومحرومات ومظلومات، ويصورهن الكتاب والمثقفون على انهن ضحابا الأمية والجهل والخرافات المنتشرة بين النساء بسبب انعدام الفرص والامكانيات. ويعبر هؤلاء الكتاب عن احتجاجهم وقلقهم وتضامنهم مع هؤلاء النساء ومستقبلهن. وفي العقود الأخير، أضيفت صور جديد للمرأة في الأدب الإيراني، أي "صور المرأة ذات النزعة الغربية"، التي هي على عكس الضحايا من النساء، أصبحت هدفاً للكتاب والمثقفين. فإذا كان الرجال "عديمي الأخلاق" في السابق وخاصة من الطبقات العليا الذي يتحملون مسؤولية وقوع النساء في الهاوية وانهيار القيم، فالمرأة ذات النزعة الغربية في هذه الفترة ليست مسؤولة عن الانحراف وسقوطها فقط، بل هي وسيلة لانهيار القيم العائلية والمنظومة الأخلاقية والثقافية للمجتمع بشكل عام.
لقد كان الأمر معكوساً في الفترة التي تلت مرحلة ثورة المشروطة (أواخر الحكم القاجاري وحتى أعوام 1921، حيث طالب المثقفون بزيادة مشاركة المرأة في المجتمع وتوسيع الإمكانيات التربوية والتعليمية للنساء.وقامت شخصيات مثل طالبوف تبريزي وزين العابدين مراغئي ودهخدا وجمال زاده وميرزاده عشقي ولاهوتي بالترويج للتجديد وانتقاد السنن البالية ومظاهر التخلف عند المرأة. واعتبروا أن قضية المساواة بين المرأة والرجل ليست بفكرة غريبة عن إيران، بل لها جذور وسابقة قومية ووطنية في تاريخ إيران القديم، وعبروا عن أسفهم للمكانة المتدنية للمرأة الإيرانية راهناً مقارنة بالأمم الأخرى العثمانية والصينية والمصرية ناهيك عن الأمم الأوربية. واعتبروا أن تقدم المرأة يشكل عاملاً مهماً وضرورياً في تقدم المجتمع، وذلك بهدف تحريض الوطنيين للوقوف بوجه التمييز ضد المرأة.
إن البحث في أحوال المرأة في السنوات الممتدة بين عام 1921 وحتى عام 1936 يرسم لنا صورة عن "ضحية ومظلومية" النساء ، ويؤكد باستمرار على الحرمان والوضع الاجتماعي السيء بالارتباط مع عوامل سياسية. ونجد في تلك الفترة صوراً من الاحتجاجات حيال مظلومية المرأة في كتابات عباس خليلي وربيع أنصاري وأحمد علي خداداد ويحيى دولت آبادي وبعض من آثار صادق هدايت وحجازي. ونعثر في بواطن الكثير من القصص على كيفية سقوط الفتيات البريئات في مستنقع الفساد والفحشاء. كما لوحظ بدء موجة من الإحساس بالخطر والقلق من الغلو في العلاقة بين الشباب والخوف من بدء مظاهر الشهوة والانفلات. ويبدو أن ذلك كان مجرد موضة في تلك الأيام في الموقف إزاء النساء.
ولكن مع توسع عملية التحديث وتزايد عدد النساء المدينيات من الطبقة المتوسطة، ظهرت في الميدان الاجتماعي في أعوام 1961- 1971 صورة المرأة الفرنجية "ذات النزعة البرجوازية"، وانعكس ذلك على الأدب والقصة. وحلّت بالتدريج الملامة والتعصب والحقد إزاء النساء بدلاً من التعاطف معها. وبدأنا نقرأ في كتابات أفراد مثل محمد مسعود وعلي محمد أفغاني كتابات تتحدث بشكل أضيق عن الضحابا من النساء والمظلومات والمنفعلات منهن، ولكننا نعثر في هذه الكتابات بشكل أكثر عن نساء غيّرن ملابسهن واتخذن مظاهر غربية. ولم نر في هذه الكتابات أمهات مضحيات وزوجات تتنكرن لذاتهن ومطيعات وخجولات، بل نساء "سليطات اللسان وبدون حياء" ويتجولن في الأزقة والشوارع. وبموازاة نشر مقالة "النزعة الغربية"( ونشر مقالات آل أحمد وعلي شريعتي وأمثالهم)، برزت أكثر صورة المرأة المدينية السلبية المتأثرة بالغرب.
لقد جرى تشخيص "النزعة الغربية" كداء أصلي في المجتمع، وإن المرأة المتأثرة بالغرب هي حاملة للجرثومة الأصلية لهذا الداء. وأصبحت المرأة المتأثرة بالغرب تشكل المظهر الأصلي للفساد وتجسيم كامل العيار للفتنة والتدهور الأخلاقي والضياع الثقافي وانعدام الهوية. ولوحظ تتعرض كل امرأة تنزع العباءة وتدخل سوق العمل وفي المصانع أو تُستخدم في الدوائر والمؤسسات إلى مظان الاتهام بدعوى الابتلاء بمرض النزعة الغربية. وكان على كل امرأة، رغم تشبثها بالحداثة ونزعها للعباءة والانخراط في العمل، أن تثبت أنها مازالت امرأة "نجيبة وأصيلة". وغدت هذه المسألة الخاصة، التي راجت بين الفئات التقليدية المتوسطة لجيل النساء غير المحجبات، مسألة بالغة الجدية. فكان على مثل هذه المرأة أن تقاوم التحرشات والنظرات الجنسية الزائغة من قبل أقرانهن ورؤسائهن في العمل من ناحية، ومن ناحية أخرى مواجهة ضغوط أفراد العائلة والمجتمع المحيط بها كي تثبت أنها لا يمكن أن تنصاع لهذه الضغوطات. وأتذكر أنا شخصياً ما حدث في عام 1971 أثناء مشاركتي في محفل للمثقفين الراديكاليين وتذكرت في مناقشة مع الآخرين حين أشرت إلى أنه:" بالرغم من معارضتي العميقة لنظام الشاه، فلا يمكنني أن أنكر إن الإصلاح وانتشار الرأسمالية في تلك الفترة، شأنا أم أبينا، جلبت الفائدة للنساء العاملات. فتمتع عدد من النساء بالاستقلال المالي والتخصص المهني وما زال عددهن في ازدياد". وجواباً على كلامي قيل :"إن جو العمل، وخاصة في الدوائر الإيرانية، ملوث إلى حد يستحسن أن تبقى المرأة في بيتها لحين أن تجد عملاً مناسباً لها. فهذا النظام القذر يحول النساء إلى فاحشات".
إن هذا النمط من التفكير والحساسية والوساوس حيال وحود المرأة خارج البيت يلقي رواجاً بين المثقفين أيضاً. ففي قصة جلال أل أحمد " قصة مدير مدرسة" يشار إلى أن أحد المبادرات الحسنة لمدير المدرسة هو رفضه السماح لمرأة معلمة بالدوام في مدرسة " الأولاد العزاب". ويلاحظ في أدب تلك الفترة طغيان نغمة العودة إلى الجذور وإلى الماضي وناستولجيا الحياة الريفية وما قبل الصناعية، ولا أن لا تقوم "المرأة الحسنة والأصلية" بالبحث تبحث عن مكان لها في المدن الإيرانية الكبرى، بل في الأرياف والنواحي. وهنا نتوقف لنسأل اليوم لماذا لم تتجه النساء التقليديات والمحجبات الآن نحو الاستقرار في بيوتهن، فهن يتوجهن الآن نحو ميادين الاجتماعات بشكل أكثر من السابق ( فترة نظام الشاه). تتذرع النساء المسلمات إن الثورة الإسلامية قد طهّرت فضاء الإجتماعات من مرض "النزعة الغربية"، وإن وجود الحجاب يشكل حاجزاً يفصل بين الرجل والمرأة ويمنع التماس والمعاشرة بينهما على طريق "سلامة" المجتمع. ولذا تستطيع المرأة المسلمة اليوم خلافاً للسابق، وبدون أي شعور بالاثم والمعصية، أن تقود سيارتها وتمارس العمل إلى حد الانخراط في التدريب العسكري والمشاركة في أية فعالية في إطار دور النساء الاجتماعي، فهذ كلها نشاطات مباحة للمرأة. فالتناقض المثير هنا إن العباءة والحجاب المتيسر لدى النساء السياسيات والناشطات في الحكومة الإسلامية، وعلى الرغم من فعله وأهدافه الأولى، لم يعد وسيلة لفرض الحجر عليها وبقائها بين ثنايا جدران البيت، إلاّ أنه ضمن الظروف المادية والسياسية الراهنة في إيران، يعمل على زيادة الإمكانيات للتحرك الاجتماعي للمرأة المسلمة، هذه المرأة التي حُظر عليها المشاركة في الاجتماعات سابقاً بسبب عدم وجود العباءة والحجاب. فضلاً عن ذلك، فمن أجل الحفاظ على السلطة السياسية من قبل الفئة الحاكمة اليوم، وبالرغم من الأصول المطلقة البنيوية، اضطرت هذه الفئة إلى السماح للنساء بالنزول إلى الميدان من أجل تقوية جبهتها في المواجهة والمنافسة مع الفئات والطبقات التي تنازعها على النفوذ في المجتمع. فالصراع ضد نموذج المرأة المدينية الحديثة وغير المحجبة والفعالة والمتعلمة والعاملة وذات الوعي السياسي لا يمكن أن يُكتب له النصر من قبل نموذج أمرأة مسلمة منفعلة وأمية وقابعة في البيت وليس لديها أي اطلاع عما يجري حولها، ولكنها تسعى في نفس الوقت إلى استلام السلطة. ولذا أدركت العناصر الأكثر براغماتية في النظام الإسلامي من أمثال هاشمي رفسنجاني هذا الواقع السياسي بشكل أفضل من الأصوليين الجزميين.
ازدواجية البدن والروح
إن ما يثير الدهشة في الواقع هذا الإصرار في الأخلاقيات والفكر السياسي والأدبي الإسلامي وغير الإسلامي في العقود الأخيرة على موقف حساس إلى حد الوساوس حيال الحضور الجسماني للمرأة في المجتمع، وحيال الجسم والجسد والشَعَر؟. فقد بلغ الأمر حداً على سبيل المثال أن يشير مثقف مثل أبو الحسن بني صدر إلى أن السبب في وجوب استخدام غطاء الرأس من قبل المرأة هو نتيجة لانبعاث أشعة مهيّجة من شعر المرأة. ومن أجل الجواب على هذا السؤال يتحتم علي الخوض في مجالات معقدة من علم النفس المعرفي وعلم المعرفة والأخلاق لثقافتنا، ولكن ليس لدي القدرة على الخوض في هذه العلوم ، وليس هناك مجال للخوض فيه بشكل شامل ضمن الإطار المحدود لهذا البحث.
عثر الباحثون في علم النفس الفاشي أو الجبر والاستبداد، على علاقة وتبعية مثيرة للانتباه بين قمع الميول الطبيعية والعقد الجنسية وبين السلوكية والتصرفات القمعية. فمتى ما كانت المنظومة الأخلاقية والقيمية موجهة نحو قمع الحاجات والنوازع الطبيعية والعاطفية والمادية للإنسان، ومن ضمنها الحاجات الجنسية، فإن سلوك الأفراد يتجه أكثر فأكثر نحو القبول بالعنف والاستبداد، إلى حد ممارسة أفعال العنف والإكراه. ففي ظل ثقافة استبدادية، لا تمارس المنظومة الرسمية لوحدها إجراءات معادية للديمقراطية، ولكن تنتشر خلال سنوات طوال نزعة الاستبداد والعلاقات المستندة إلى العنف والإكراه في سائر الميادين، وتتغلغل إلى باطن كل فرد. لقد تم المرور بتحولات عظمى مثل عصر النهضة، والنهضات التنويرية والثورة الصناعية والثورات البرجوازية والديمقراطية، من أجل الإجهاز على الثقافة الاستبدادية في أوربا القرون الوسطى، وإرساء قيم ومنظومات للتربية الديمقراطية على أساس أفكار مربين من أمثال جون جاك لاك وجان جاك روسو وجان ستيوارت ميل ، ثم في أمريكا جان ديوي. هذه الأفكار التي جرى الترويج لها في الحياة اليومية، وخاصة في البيت والمدرسة، وإشاعتها تدريجياً ونسبياً في تكوين الأفراد منذ نعومة أظفارهم.
ويبدو أن أحد أركان المعرفة الروحية وعلم نفس الاستبداد، خاصة بما يتعلق بشكل مباشر بالطاعة وقمع النساء، هي ثنائية رائجة كالثنائية بين الجسد وبين الروح، أو بين العقل وبين الشعور. ويبدو أن هذه الثنائية قد راجت في علم المعرفة اليونانية القديمة وحتى في العقلانية الأوربية الجديدة وفي المسيحية وفي الفلسفة الإسلامية. وهي ثنائية غير سليمة وغير علمية وغير ديالكتيكية كثنائية الروح والجسد أو العقل والشعور، أو بتعبير آخر وضع الإيمان والشهوة على طرفي نقيض ومنفصل بعضها عن بعض كالأبيض والأسود والليل والنهار. وعلى أساس ذلك يجري التأكيد أنه عندما يجري الحديث عن العقل والحكمة، فلا يبقى عنده أي مكان للشعور، ومتى ما حضرت العاطفة والمشاعر، فلا مكان هناك للعقل الذي سيحتل مكانه الهوى والهوس. ومن ناحية أخرى، فهناك بين هذين القطبين تقييم متفاوت يجري على الدوام لصالح لطرف واحد، بحيث يعتبر الإنسان فاضلاً وصاحب قيم تبعاً للروح والنفس الموجودة في جسده وبدنه، فعقله وحكمته يسيطران على مشاعره وعواطفه ويتحكم فيها. ومن ناحية ينظر إلى المرأة، سواء أكان ذلك في الديانة اليهودية والمسيحية وفي الإسلام، على أساس البدن والجنس، وكتعبير عن حاجة الرجل الجنسية أو استذكاراً لحاجاته الجسمانية والعاطفية أثناء فترة الطفولة، أي الأم. وفي كلتا الحالتين فإن اقتراب الرجل من المرأة لدليل على ضعفه وتعبير عن تسليمه للحاجات المادية والجسدية والعاطفية. إن هذا الهروب من الجسد، وتبعاً لذلك الهروب من المرأة الذي نشهده بشكل أشد في المسيحية الأرثودوكسية مما في الإسلام، هو الذي غذّى نزعة الرهبنة والعزوبة وكونها ضرورة من ضرورات حفظ الإيمان"رجل الله"، ووجوب بقاء القسيس والراهبة مطهرين من تلوث الجسم واللذائذ النفسية. ومن هنا ولد المسيح من أمرأة استثنائية"مريم العذراء". و لا يجري نفي الحاجات الجسمانية والجنسية، إلا أنه حسب قول صباح فتنه " إن العقل والشهوة على علاقة متينة بحيث ما أن يتم تم تقوية أحدهما فسيؤدي حتماً إلى تضعيف الأخر.".
إن أساس الثنائية الإسلامية هي ضرورة الإيمان والتقرب من لله، دون أن يعني نفي الميول النفسية التي يجب الرقابة عليها، أي التغلب على المشاعر وطلبات الجسد. فإذا كانت المرأة تعتبر مصدر ومرجع الميول الدنيوية والشهوانية، فإن حضورها على الدوام إلى جوار الرجل يشكل خطر الوسوسة والفتنة والافتتان والخلل العقلي مما تتطلب الحاجة إلى الإيمان والتقوى وليس الهروب من المرأة، بل السيطرة والخضوع. فالتمسك بالروح والعقل والإيمان هو الذي يوفر الغلبة على الدوام في صراع القوى بين الروح وبين الجسد والصراع بين العقل وبين المشاعر وبين الإيمان وبين الشهوة. ولذا يجب أن لا توضع المرأة، التي هي موجود "ناقص العقل والمشاعر" حسب رأيهم، تحت رقابة الرجل ورعايته فحسب، بل يجب الحفاظ على المسافة بين المرأة والرجل.
يتبع

Leave a Reply