ما فعلته قوى النظام والظروف بالشعب العربي

ما جرى ويجري بعد قيام ثورات وحراكات الربيع العربي يحتاج إلى تمحيص وفهم لا ينحصر في نطاق السياسة، وإنما يتعداه إلى حقول أخرى، إن الأغلبية الساحقة من الكتابات والمناظرات تركز على العوامل السياسية في محاولاتها لفهم أسباب التعثرات أو الانحرافات أو الإخفاقات التي حدثت في هذا القطر العربي أو ذاك .

ولكن ماذا يقول علم الاجتماع وعلم النفس، وعلم الأخلاق في شأن الوضع العربي الحالي الذي يموج مداً وصعوداً لينقلب بعد حين إلى جزر وهبوط؟ ذلك أن تفسيرات من مثل التدخل الأجنبي أو التنافر الصهيوني أو تدفق المال العربي لهذه الجهة أو تلك لا تستطيع لوحدها تفسير ما يحدث، وبالتالي نحتاج إلى ما يذهب إلى الأعماق ويتخطى الظواهر .

في البدء يجب التأكيد على أنه لا يوجد شيء اسمه شعوب طيبة عاقلة وأخرى شريرة مجنونة، وبالتالي فإن ما يصيب الشعوب هو بسبب عوامل ذاتية، من نواقص وعاهات، أو امتيازات وفضائل، متأصلة في هذا الشعب أو ذاك .

الشعوب، تماماً مثل الأفراد، تولد على الفطرة، والفطرة تقوم في الأساس على الخير وتنبذ الشر .

وبالتالي فإن محاولات تفسير ما يحدث من خلال وجود عوامل ذاتية سلبية في الإنسان العربي وفي المجتمع العربي هي محاولات عنصرية بدأها المستعمرون وبعض المستشرقين وسار على خطاها، مع الأسف، بعض المستغربين العرب .

نحن لسنا أمام شعب يختلف عن بقية الشعوب ولا أمام إنسان عربي يختلف عن بقية البشر .

إذاً، أين تكمن المشكلة، دعنا نؤجل الجواب .

ما فعلته قوى النظام والظروف بالشعب العربي والاجتماع قد أظهرت، بالنسبة للأفراد كما للجماعات، بأن ما يحدث للفرد كما للجماعة هو حصيلة تفاعل بين ثلاثة عناصر: المكونات الذاتية للأفراد أو الجماعات، والظروف المحيطة بالفرد أو الجماعة، والنظام الذي يخلق الظروف أو يبقيها أو يستعملها للتأثير في الأفراد والجماعات، علم النفس أظهر ذلك بالنسبة للأفراد وعلم الاجتماع أظهره بالنسبة للجماعات ومنهم الشعوب .

بالنسبة للشعب العربي لا يوجد أي مبرر للاعتقاد بأن مكوناته الذاتية، كجزء من البشرية، تختلف عن الآخرين، إذاً فالقضية تتركز في عنصري الظروف المحيطة به والنظام السياسي - الاقتصادي - الاجتماعي الذي يخلق تلك الظروف الآن، والذي خلقها عبر التاريخ الطويل لهذه الأمة .

للكاتب إيرك هوفر مقولة بالغة الدلالة: “عندما تتزاوج القوة مع الخوف الدائم الطويل المدى فإنها تصبح غير قابلة للقهر” .

هذا الأمر ينطبق على الوضع العربي، فعبر تاريخ طويل كان النظام العربي سلطوي استبدادي ترافق مع خوف مركب من السلطة من جهة ومن تبعات الحرية من جهة أخرى، لقد عاش الشعب العربي، منذ الملك العضوض، في سجن كبير يديره حرّاس استبداديون من خلال أنظمة بطش وترهيب وإفساد، ما كان له إلا أن يقود إلى تشويه عقل ونفس وروح الإنسان العربي .

لكي ندرك عظم ومعنى المصيبة الاجتماعية والنفسية التي حلت بالجماعات وبالأفراد العرب من جراء نظام الاستبداد ذاك دعنا نستذكر بأن العديد من التجارب المخبرية التي أجراها علماء النفس والاجتماع على متطوعين أظهرت بأن وضع هؤلاء المتطوعين في أجواء السيطرة والاستبداد، وبالتالي في الخوف الدائم ولفترات قصيرة جداً، قادت إلى نتائج تدميرية نفسية واجتماعية بين صفوف أولئك المتطوعين .

لقد تغير أولئك المتطوعون، الذين كانوا عاديين وأسوياء ومتزنين في تصرفاتهم، ليصبحوا بشراً مختلفين بصورة جذرية، فالذين كانت عندهم كرامة أصبحوا خنوعين، والذين كان لديهم كبرياء الاستقلال الشخصي أصبحوا سلبيين يعتمدون على القوي الآخر، الجميع استقالت في داخلهم الأنفة والعزة ورضوا بأن يكونوا تابعين للظروف وبالأخص للنظام، أي للقوة الخفية التي تدير الظروف .

إذا كان ذلك التغيير قد تم خلال فترة قصيرة تحت ظروف مختبرية مؤقتة، فكيف يكون التأثير والتغير إذا كان نتيجة قرون من القهر والاستبداد والظلم؟ أي تغييرات كبرى قد حفرت في عقل ونفس وروح الشعب العربي عبر القرون؟ أي تشويهات قد تجذرت لتجعل تعامل الشعب العربي مع ثورات وحراكات ربيعه تعاملاً مليئاً بالثغرات والعلل؟

سنحاول الإجابة عن ذلك في مقال قادم .

Leave a Reply