كيف نقي اطفالنا من سلوك الانانية؟

ياسين الجيلاني - في سنوات الطفل الأولى، قد يكون تركيزه حول نفسه من حب الذات، الذي أطلق عليه علماء النفس لفظ «النرجسية»، وهذا المعنى مشتق من أسطورة يونانية قديمة، أسطورة الشاب الجميل «نرجسي» الذي كان يقضي الساعات الطوال في تأمل وجهه في الماء، والاستمتاع بجماله، فغضبت عليه الآلهة، وحولته إلى الزهرة المعروفة باسمه الآن «نرجس».
اليوم... يركز علم النفس الحديث اهتمامه في دراسة هذا السلوك الإنساني الأناني، ودراسة الاستجابات التي تصدر عن الفرد في مختلف المواقف الاجتماعية، تبعاً لما اكتسبه المرء أثناء التنشئة الاجتماعية له، التي تؤثر في سلوكه الاجتماعي، وفي علاقته بالأفراد الآخرين.. وتعتبر الأنانية «النرجسية الذاتية» من الدوافع الاجتماعية التي تكتسب بالتعلم، وهي ليست حتمية للنمو، وإنما تأتي غالباً تحت تأثير الحضارة وتجارب الحياة التي يمر بها الطفل.
فالطفل سواء أكان المولود الأول أم السادس، بطبيعته يريد أن يستحوذ على كل شيء، وأن الأطفال عامةً يريدون كل العطف، وكل اللعب، وكل الاهتمام، وكل الامتيازات، ومن الواضح أنهم لن يحصلوا على ما يكفي من كل هذا، ليسد مطالبهم التي لا نهاية لها، ومن الواضح أيضاً أنهم سوف لا يكفون عن هذه المطالب، أو يشارك بعضهم بعضاً، فيما حصلوا عليه دون الشعور بالألم والغضب. وبكل تأكيد ان ما نتطلبه من الأطفال بأن يتخلوا عن بعض الأنانية، يعد أمراً ضرورياً ومرغوباً فيه. إن كل فرد ينبغي أن يعرف أنه أحد أفراد عديدين في الأسرة.
والأسرة خاصة تواجه صعوبة مع الطفل الصغير في أن يتعلم الأخذ والعطاء، وستكتشف الأسرة أنه مهما يكن صبرها في محاولة اعطاء النصائح للطفل، فإنها لا يمكنها أن تتجنب تماماً الشعور بالغيرة، وحتى العداوة بين الأخوة والأخوات.. لأن هذا الطفل الصغير، هو الذي يتلقى الثياب المستعملة من أخوته الأكبر سناً، وهو الذي يكون من نصيبه الألعاب المكسورة، حتى لو كانت هذه الألعاب غير صالحة له، فإن اخوته وأخواته لا يسرّون باعطائه هذه الألعاب وغيرها.
كما يؤكد بعض علماء النفس والانثروبولوجيا، أن للحضارة الانسانية تأثير كبير أيضاً، في تكوين دافع الأنانية عند الأفراد، خاصة في المجتمعات التي تكثر فيها المنافسة، حيث يشجع الكبار إثبات الأطفال لذواتهم وسعيهم للسيطرة على غيرهم، فالسيطرة تولد أحياناً الأنانية البغيضة – ويؤكدون أن هناك مجتمعات لا يظهر بين أفرادها دافع الأنانية بوضوح، فمثلاً ـ إن دافع الأنانية نادر جداً بين أفراد سكان حوض نهر الأمازون، وبين قبائل «الأرابش» التي تعيش في غينيا الجديدة، والمنتشرة في معظم الدول الافريقية. فحين يصطاد الفرد الأسماك، لا يعتبر أن ما حصل عليه من أسماك ملكاً له، بل ملكاً للقبيلة التي تقوم بتقسيمه بين الأفراد بالتساوي. ولا يظهر أيضاً دافع الأنانية بوضوح بين سكان مدينة يوكامايا وغيرها من القرى اليابانية، التي تعتبر الأنانية سلوكاً شاذاً غير مرغوب فيه.
ان أكثر من يظهر دافع الأنانية المجتمعات الرأسمالية أو الدول الصناعية المتقدمة، التي تشجع على روح المنافسة والسيطرة والاحتكار... أما في مجتمعنا فإن دافع الأنانية أكثر ما يظهر بوضوح بين أطفالنا، مما يبعدهم عن الآخرين» نظراً لتعاطفهم أكثر مع عصر العولمة وما فيه من ثورة المعلومات وتقنيته الانترنت، التي اعادت تشكيل ثقافة هذا الجيل، فأصبح يطلق عليهم جيل الانترنت، ومنها اكتسبوا القيم والمفاهيم، التي غالباً ما تفتقر إلى الموضوعية والمصداقية، مما أدى إلى تغيير انماط سلوكهم والكثير من القيم والمفاهيم، عما كان عليه الآباء والأمهات.
وفي هذا الاتجاه؛ فإن علماء النفس والتربية الحديثة، يؤكدون أن لا نفرض على أطفالنا سلوكنا وميولنا وعاداتنا والموروثات القديمة، وأن لا نطالبهم بإلحاح، بأن يكونوا نسخة عنا، وهذا ما يمكن أن يسبب لهم المزيد من الأذى والتمرد، الذي يؤثر سلباً على شخصياتهم مستقبلاً... فالطفل لا ينبغي أن يكون محكوماً عليه في الدوران حولنا، لأنه يعزز روح الانانية فيه.
ولأنه في واقع الحال، لا يمكن أن يكون صورة طبق الأصل عنا، ولا يجوز أن يكونها، لأن بين الآباء والأبناء عمر ً طويل ، وبينهم وبين أطفالهم فروقاً حادة في الطباع وفي القابليات والمعطيات، وفي كل أساليب التفكير والعمل.
وعلينا أن ندرك؛ أن أبناءنا يكتسبون تسعة أعشار قابلياتهم وعاداتهم وسلوكياتهم، في السنوات الست الأولى من عمرهم.. فلا ينبغي أن نهمل هذا في مراحل الحسم هذه... ولا ينبغي لنا أن نلقن اطفالنا في هذه المرحلة العمرية الأولى، ما لا يرغبون أن يترسخ في أذهانهم وطباعهم وتصرفاتهم، خاصة الأنانية أو حب السيطرة وغيرها من الدوافع الاجتماعية غير المرغوب فيها.
وعلى الآباء والامهات أن يدركوا أيضاً أن زرع القيم السلبية أو القيم النرجسية الذاتية، تولد في نفوس الأطفال الأنانية وتعمقها، وتولد الاحتكاكات والمشاحنات والصراعات النفسية، والكثير من الاضطرابات التي تصيب وظائف الطفل الفسيولوجية والسيكولوجية. وعليهم أيضاً، أن يحاولوا زرع القيم الايجابية بين ابنائهم، لأنها قيم تؤكد على جانب الخير، وتحمي الأطفال من الانزلاق في عالم القيم السلبية أو القيم النرجسية الضارة، وأن يعلم الآباء والأمهات، أن مبادئ التربية الحديثة ثابتة. وغير متغيرة بتغير الزمان والمكان، أما المتغير فهي الأنماط الجديدة في حياة أطفالهم، كالشغف بالانترنت والكمبيوتر، ولا يجوز أن يكون ذلك على حساب قيم الفرد الايجابية وقدراته على تحمل مسؤولياته... فالكمبيوتر مثلاً – مهما تنوعت برامجه والقيم التي يقدمها، إلا أن الطفل يتعلم قيم ايجابية أكثر فاعلية وصدقية من الأسرة والمدرسة على حد السواء.
وهكذا ننتهي إلى القول؛ بأن الآراء والنظريات المستحدثة في علم النفس والتربية الحديثة، من شأنها أن تعلم الأطفال، أن لا يركزوا اهتمامهم حول ذواتهم، لئلا تتحكم الأنانية في مجرى حياتهم، فلا يفكروا إلا في أنفسهم ومطالبهم، والعمل على إيجاد قاعدة خلقية وسلوكية صالحة لأطفالنا منذ الصغر، ونعلمهم كيف يميزوا بين الخطأ والصواب، وبين الأمانة والغش، وبين الصدق والكذب. ومن شأن هذا أن يشيع بينهم روح الود والصداقة والايثار والتعاون، ليعيشوا سعداء عاملين، وبما يتماشى وأساليب الحياة السليمة والسريعة، سواء أكان ذلك في المجتمع أو في الأسرة أو في المدرسة ومع الأصدقاء وبعيداً عن روح الأنانية غير المرغوب بها... فالتنشئة الاجتماعية السليمة لا تؤدي إلى العقد النفسية والاضطرابات السلوكية والدوافع الأنانية، وغيرها من الدوافع الاجتماعية المكتسبة، التي تؤدي إلى هذا الاختلال وإلى اضطراب تنشئة الطفل بطريقة صالحة متكاملة.

Leave a Reply