في قضية الأسرى

د.احمد نوفل

1-مدخل.
لأمر حكيم قص القرآن علينا قصة يوسف، وجعل نبياً كريماً يعيش تجربة السجن بضع سنين، ليكون الأنبياء عليهم السلام أسوة لنا وقدوة ومثلاً في كل شيء حتى في تجربة أقسى ما يتوقعه الإنسان: تجربة السجن. والسجن ظلماً ممض، وقاتل للنفس. وقد عاش يوسف التجربة بكامل أبعادها وبأقسى صورها! أن يسجن لعفته وشرفه وأمانته، وأن يفقد زهرة شبابه في السجن، وأن ينسى فلا يذكر من قبل النظام في مصر طيلة سنوات حتى احتاجوا إليه.. فيشاء الله أن يخرج من السجن إلى إدارة مصر. ولو قدر لـ"خيرت الشاطر" أن يدخل الانتخابات لكرر تجربة يوسف عليه السلام. وقد درس معي في مصر شاب قال لي: إنه دخل السجن ابن 15 سنة وخرج وهو ابن 33 بلا تهمة.. إلا أن أباه من جماعة الإخوان.
وإذا انتقلنا من هذا الحديث إلى الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والقانون والأدب، نجد حديث السجن فائضاً هائلاً، ففي الفلسفة لعل أهم من درّس تجربة السجن وأثرها وسياسة الدول فيها هو ميشيل فوكو.
السجن عالم، لا أراك الله، وفي علم النفس كتبت كتب عن "سيكولوجية الأسير" وفي القانون والأدب حديث يطول. ويبدو أنّا سنعود لهذا الموضوع لكن الآن نقف عند قضية أسرانا..
2- السجن جزء من دولة إسرائيل ومنهجيتها.
السجن هو الوجه الحقيقي لإسرائيل. والسجن هو الكشاف عن طبيعة هذه الدولة القذرة الاستعمارية العنصرية الإرهابية الظالمة. والسجن جزء من مشروع الدولة وجزء من منهجيتها في إركاع الشعب الفلسطيني وإخضاع الشعب المقاوم. السجن كشف القناع عن وجه بشع قبيح شيطاني تخفيه مساحيق التجميل، والسجن رفع النقاب وإسقاط الزيف الذي يغشي الحقائق ويغطيها.
والسجن بُعد استراتيجي في سياستهم وعقليتهم، ولا أبالغ إذا قلت إن مئات الآلاف من شباب الشعب الفلسطيني خضع لتجربة السجن. وإنما يهدف الاحتلال من وراء ذلك الى ترويض الأسود، وترويع الأهالي الأصليين والمالكين الحقيقيين للأرض، لإفهامهم أنها ليست أرضهم بدلالة أنهم إن فكروا بمقاومة هذا المحتل الذي يدعي أنه مالك الأرض فإنهم يتعرضون لأسوأ ما يتعرض له الإنسان: السجن، الذي يعني سلب الحرية ومصادرة حق الحياة والعيش.
وسوى ذلك فإن السجن فرصة لهم لجمع المعلومات واكتشاف شبكة العلاقات، فكل سجين يخضع لهم ويمكث عندهم شهوراً تطول أو تقصر يتعرض فيها للتحقيق والاستجواب والأسئلة التفصيلية التي يعرفون بها أغوار كل شخص وسقف شخصيته وإمكاناته التنظيمية والقيادية ومواهبه، ومن أقاربه وأهله إلى الدرجة الثالثة والرابعة.
وهي فرصة كذلك للإسقاط. فكم من مناضل بدأ مناضلاً وانتهى عميلاً. فالسجن بالنسبة لإسرائيل يحقق أهدافاً كثيرة عديدة بعيدة وتعمل على مدى بعيد نفسي واجتماعي.
والسجن فرصة لما لا يحصى من تحقيق المشاريع الشيطانية والأهداف الخبيثة، فسوى الإسقاط وتجنيد العصافير، يعمقون الشرخ بين التنظيمات، وربما يسجنون الشباب الصغار مع المجرمين الكبار أو أصحاب أخطر الأفكار، فيخرّجون أو يخربون الشباب بالمبادئ التي يخططون لنشرها تحت دعاوى أنهم مناضلون أو غير ذلك. وأعرف من قال لي إنه قرأ آلاف الكتب الماركسية في السجن وخرج بالطبع ماركسياً عميقاً، فقلت له: لو انتبهت لعلمت أنك كنت صيداً، وأنهم وفروا لك عشرات آلاف العناوين ليشكلوا عقلك وفق مرادهم هم ويبعدوك عن مصدر القوة الحقيقي: هذا الإسلام العظيم. فكل شيء قابل للاحتواء عدا هذا الدين.
لا أريد أن أستعرض كل أهدافهم، ولعلي أعود إلى هذا الموضوع في أكثر من حلقة، فمن ضمن أهدافهم التفكيك الاجتماعي، والإرهاق النفسي والاقتصادي في الزيارات للأمكنة القصية..الخ.
3- الأسرى هم طلائع الحرية وهم الأحرار.
الأسرى يتراوحون بين من قاموا بعمليات فدائية بطولية، أو حتى من ألقى الحجارة، أو من هم أفراد في خلايا تنظيمية حركية أو سياسية، أو ناشطون في قضايا اجتماعية أو قياديون بإمكانهم أن يحركوا غيرهم وأن يؤثروا في الجماهير، وأحياناً يقع في الأسر أطفال صغار يقصدون بأسرهم كسرهم، وكسر شوكتهم وعنفوانهم وحطم شخصياتهم والحط من معنوياتهم. فالأسرى إذاً هم طلائع الشعب وحركيوه.. واستثنِ العصافير بالطبع.
ولما كان الأسرى بهذه المثابة وهذه المكانة كان ينبغي أن يكون التفاعل معهم ومع قضيتهم أشد ما يكون، وأن الصمت على استمرار ظلمهم وحجزهم وتقييد حريتهم جريمة لا تغتفر.
ولو بذلنا في تحرير أسرانا الشهداء قوافل وراء قوافل ما كان ذلك كثيراً. لأنهم ضحوا من أجلنا ويجب أن نضحي من أجلهم. وبذلوا لنا فيجب أن نبذل لهم. وليتصور كل منا نفسه في مكانهم أو ابنه أو أخاه أو أقرب الناس إليه.. لو فكرنا بهذه الطريقة لتغير الكثير في حياتنا.
4- القوى العالمية وحقوق أسرانا.
لا نبالغ إذا قلنا إنه ما من بيت فلسطيني إلا وذاق تجربة الأسر وسجن أحد أبنائه، فكل الشعب تقريباً ذاق مرارة الأسر والسجن.. ومر بهذه التجربة ولم ينج من تجربة الأسر لا النواب ولا الأكاديميون ولا السياسيون، حتى أبو عمار عاش تجربة السجن في المقاطعة في رام الله. هذا هو الشعب اليهودي المختار الذي لا يرى حقاً في الحياة لشعب سواه.
وأنت إن ذكرت اسمهم تطارد في كل العالم، وهم إن سجنوا كل شعبك لا يتكلم عن جريمتهم أحد في العالم.
أقول: لنفترض أن المسجون شعب غير هذا الشعب العربي المسلم ماذا كان يحدث؟ وتأمل لو أن يهودياً جاسوساً سجن أو يهودياً مهرب مخدرات كيوسف طحان الذي سجن لأيام أو أسابيع مع أنه هرّب أكبر صفقة مخدرات في التاريخ، وطلع كالشعرة من العجين.. في عصر مبارك المبارك.
لقد تكلم فيه كل من زار مصر والتقى بمبارك. والسؤال لماذا الفرد منهم مهم مع أنه لا يساوي شسع نعل السجين البطل المناضل عن حق شعبه؟ ولماذا لا تتكلم عن أسرانا وحقوقنا وحقوق أسرانا الهيئات الدولية والقوى العالمية والمنظمات المؤسسة لمثل هذه الغايات؟ إنهم إن لم يتكلموا يجب أن نجبرهم أن يتكلموا عن طريق إيلام أحبابهم اليهود بالأسر أو بالقتل! عندئذ سيتكلم العالم!
5- دور دولنا في ضياع حقوق أسرانا.
أحسن محامي دفاع عن إسرائيل هو واقعنا العربي وواقع حقوق الإنسان فيه. ولست أتكلم عن مطالبة أو عدم مطالبة دولنا بتحرير أسرانا فهذا أي المطالبة ما لا مطمع فيه. وإنما أتكلم عن دعم هؤلاء أو هذه الدول لموقف دولة الإرهاب في إسرائيل.. فعندما يعاملون (أعني العرب ودولهم) المساجين في العالم العربي بوحشية ويقتلون ويغتصبون السجناء، وكما كان يحدث في سجن تدمر، هناك وجبتا إعدام بالقرعة كل سبت وأربعاء في زمن الأسد الوالد.
فإذا تكلم أحد قيل له: هكذا ينبغي أن يعامل العرب، كما قال فيليب حبيب الوسيط الأمريكي العربي اللبناني في وصيته للأمريكان: أنا أعْرَف منكم بالعرب، العربي كالسجاد كلما دسته زاد عزاً.
هكذا تصنع دول العرب: السجن بلا سبب، التعذيب بلا ضوابط، وكما يقال عن سجون العالم العربي وخاصة الدول الثورية: الداخل مفقود والخارج مولود، وليست الدول التقليدية أحسن حالاً بكثير. هذا هو الذي شجع اليهود أن ينهجوا مع الأسرى هذا النهج.. فالسلوك العربي غطاء لسلوك إسرائيل.
أليس سلوك الأسد اليوم أحسن دفاع عن وحشية إسرائيل مع الشعب والأسرى والأقصى.. فها هو يقصف المساكن والمساجد! واعتقال السلطة للمقاومين، وتعذيبهم حتى الموت أحياناً.. إنهم يتسابقون من الأسوأ والأردأ!
6- الإضراب عن الطعام.
كيف تلفت العالم والإعلام إلى قضيتك؟ إذا كانت المحافل الدولية صماء، والمؤسسات المحلية بكماء، والعالم كله أمام إسرائيل هباء، فما العمل؟ أبدع الشباب أن يخوضوا معركة الأمعاء. وليكن الشعار: مستعدون للموت أو تتحقق حريتنا. حريتنا أغلى من حياتنا.
أيتها الشعوب. أيتها الجماهير. أيتها الأمة جميعاً. وبخاصة يا أبناء الشعب الفلسطيني. الأسرى هم القلب النابض الحي في الوطن وفي الأمة، وقضيتهم في قلب القضايا وفي قلب كل مواطن حر أبيّ شريف. يجب أن تتحرك الأمة على كل صعيد، إن أسر واحد منا هو أسر لنا جميعاً، وحريته حريتنا جميعاً..
يجب التحرك على كل الصعد وفي كل المحافل وعبر كل وسائل الإعلام. والإعلام المشغول بكل شيء إلا قضايا الأمة.. آن أن ينشغل بقضية الأسرى.
قضية الأسرى حياة أو موت لنا جميعاً. قضية الأسرى نكون أو لا نكون. ولتتضامن الأمة كلها مع المضربين عن الطعام بأن يضرب عن الطعام ألف مليون مسلم ليعلم العالم أنّا كالجسد إذا أضرب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالإضراب.. حتى الحرية

Leave a Reply