فرويد لغز علم النفس المستمر

فرويد كان يفضّل المطالعات الأدبية ويصف المطالعات العلمية بحصة التعذيب

في الخامس عشر من شهر حزيران- يونيو 1971، وبمناسبة انعقاد المؤتمر العشرين لعلم النفس، انتظم حفل بهيج احتفاء بتحويل شقّة سيغموند فرويد في شارع “بارغ”، رقم 19 في فيينا، إلى متحف صغير يعرض قاعة الانتظار في العيادة، وستين قطعة فنّيّة، والطبعة الأصليّة لمؤلفاته، والعديد من الأشياء الأخرى. وكانت آنّا، أصغر بنات عالم النفس الشهير، من بين الشخصيّات الكبيرة التي حضرت الحفل المذكور.

وكان سيغموند فرويد الذي ولد في “فرايباخ” في مونرافيا في الثاني من شهر مايو- أيّار 1856 قد جاء إلى فيينا بصحبة عائلته، وعمره أربعة أعوام. وفي حيّ “ليوبولد شتات” حيث كانت تعيش الجالية اليهوديّة، أمضى سنوات مراهقته. وكان في سنّ السابعة عشرة لمّا كتب إلى صديق له يقول: “أقرأ الآن التاريخ الإنكليزي، وأتلو أبياتا من الشعر الإنكليزي، وأستمع إلى أوصاف عن طبيعة إنكلترا، وأطمح إلى رغبات إنكليزيّة. غير أنه ليس بمقدوري، ويا للأسف، السفر إلى إنكلترا!”. ولكي يواسي نفسه، كان فرويد يتسلّق الجبال المحيطة بفيينا وحيدا تاركا هناك في الأسفل “الكتب والناس يتعفّنون”. وفي أوقات أخرى، كان فرويد يسافر بالخيال معتمدا في ذلك الوقت على قراءة كتب الرحلات إلى أعماق أفريقيا تذكّره بالقصص العجيبة التي كان يعشق الاستماع إليها طفلا. بعد ذلك بحوالي خمسين عاما، وتحديدا عام 1926، سيذكّر فرويد من جديد القارّة السّوداء، ويكتب: “إن الحياة الجنسيّة للمرأة الناضجة هي بالنسبة لعلم النفس قارّة سوداء”.

فرويد رب الأسرة

بعد حصوله على الدكتوراه في الطبّ، وذلك في 30 مارس- آذار 1881، تزوّج فرويد من مارتا بارنايز. وهي من عائلة يهوديّة مرموقة، وبدأ يعمل طبيبا في “المستشفى العام” في فيينا. وفي عام 1885، عيّن أستاذ كرسي في قسم أمراض الأعصاب. وفي نفس الوقت حصل على منحة دراسيّة خوّلت له إمضاء 6 أشهر في مستشفى “سالبيتريار” بباريس. وعند عودته، رافق زوجته في رحلة إلى بحر البلطيق. وقبل أن ينتهي القرن، كان فرويد أبا لستة أطفال. وفي عام 1891 استقرّ فرويد وعائلته في الشقّة الكائنة بشارع “بارغ”. وهناك بدأت تتبلور في ذهنه الأفكار والنظريّات التي ستحدث ثورة هائلة في مجال علم النفس. وقبل ذلك، وتحديدا عام 1885، كان فرويد قد أصدر مع طبيب آخر مختصّ في الأمراض الداخليّة، ويدعى جوزيف بروير، كتابا حمل عنوان: “دراسات حول الهيستيريا”. والعنصر البارز في هذه الدراسات هو تماثل علم النفس مع عالم الأثريّات: “لنفرض أن باحثا ما يصل إلى منطقة غير معروفة، حيث يكون السبب في تيقّظ اهتمامه كتلا واسعة من الآثار، وبقايا جدران، وأجزاء من الأعمدة الرخامية، وألواحا من حروف ممسوحة، وغير واضحة. وهو بإمكانه أن يتوقف عند تحليل ما هو مكشوف وواضح للعيان. ثم بإمكانه أن يسأل السكّان، ربما نصف بدائييّن، والذين يعيشون قريبا من هناك، حول ما نقلته لهم التقاليد من التاريخ، ومن مفهوم ما تبقّى من تلك الآثار. وبعد أن يسجّل المعلومات، والملاحظات التي يدلون بها، يواصل رحلته. لكن ربما هو يتعامل مع هذه الآثار بطريقة مختلفة، كأن يجلب فؤوسا وأدوات أخرى للحفر، ويطلب من السكان المحليين أن يستخدموا تلك الأدوات للبحث عمّا هو مخفيّ من تلك الآثار. وإذا ما كان النجاح حليفه في النهاية، فإن ما اكتشف سيكون قادرا على البوح بأسراره. ما تبقّى من الجدران يمكن أن يكون جزءا من سور حول قصر أو كنز. أمّا أجزاء الأعمدة الرخاميّة فهي ما تبقّى من معبد تهدّم، والكتابات المتعددة التي تمّ الكشف عنها، والتي كانت لحسن الحظّ بلغتين، تفضي إلى العثور على معلومات لم تكن في الحسبان حول أحداث الماضي، والتي تعتبر تخليدا لها، فأقيمت تلك الصّروح، وتلك النصب التذكارية”.

هذه المقارنة مع علم الأثريات استعملها فرويد في كتابه آنف الذكر ليبيّن أنه من الضروري أن يبحث عالم النفس عن طرق جديدة للكشف عن الأسباب الحقيقية للأمراض التي يعالجها.

تفسير الأحلام

وفي عام 1889، شرع فرويد في نفس الشقة بشارع “بارغ” في تدوين كتابه: “تفسير الأحلام”. وفي هذا الكتاب هو يكشف لنا مجدّدا علاقته الحميمة مع علم الآثار. وهذا ما يبدو جليّا في قصّة الحلم التالي: “أنا نفسي لم أحلم حلما مزعجا منذ عشرات السنين. أتذكر واحدا من هذه الأحلام رأيته وأنا طفل في السابعة أو الثامنة من عمري، ولم أخضعه للتحليل إلاّ بعد مرور ما يقارب الثلاثين عاما. كان حلما عنيفا للغاية، فيه بدت لي أمي العزيزة نائمة بتعبير هادئ على الوجه، يحملها إلى الغرفة، ويضعها على السرير ثلاثة كائنات بمناقير الطيور. استيقظت من ذلك الحلم وأنا أبكي وأصرخ، منغّصا نوم والديّ . الوجوه بمناقير طيور، المزيّنة بشكل مثير للفضول، والضخمة الحجم بطريقة غير عادية، ربما تكون مستوحاة من رسوم وضعت للتوراة. أعتقد أنها كانت آلهة برؤوس صقور يعود أصلها إلى نقوش في قبر مصريّ قديم”.

جمعية علم النفس

ومع بداية القرن العشرين، تجمّع حول فرويد بعض المعجبين بأفكاره، وأطروحاته، واتفقوا على أن يلتقوا في شقته ليتجادلوا حول اكتشافاته، وتحاليله. وقد شكّل هؤلاء نواة ” جمعيّة علم النفس″ التي تأسست في فيينا عام 1908، والتي ستصبح شرعيّة عام 1910. وقد ترأسها ألفريد أدلير الذي سرعان ما سيستقيل بسبب خلافات عميقة جدّت بينه وبين فرويد. وفي نفس ذلك العام، 1910، تأسست في مدينة نورمبارغ الألمانية “الجمعية العالمية لعلم النفس″. وكان السويسري يونغ الذي سيصبح خصما لدودا لفرويد، رئيسا لها. وبين عامي 1915، و1916، ألقى فرويد في جامعة فيينا سلسلة من المحاضرات حدّد فيها مفهومه لعلم النفس. وقال في ذلك: “ما يميّز علم النفس كعلم، ليس فقط المادة التي ندرسها، وإنما الطريقة التقنيّة التي نستعملها، والتي نعتقد أنها أهمّ من المادة. ونحن باستطاعتنا دون أن نسلّط أيّ عنف على طبيعتها أن نطبقها على تاريخ الحضارة، وعلى علم الديانات، وعلم الميثولوجيا، كما نطبقها على نظريّة العصاب النفسي. إن هدفنا الوحيد، ومساهمتنا الوحيدة هما الكشف عن اللاوعي في الحياة النفسيّة”.

وفي مكتبه، كان فرويد يحرص على أن يكون محاطا بقطع فنيّة من العصور القديمة، صينيّة، ورومانيّة، ويونانيّة، وفرعونيّة بالخصوص. لكأنه يرغب في أن يكون في حوار دائم مع التاريخ، ومع الثقافات القديمة، وأن يحيي ما كان قد مات، وانقرض، معيدا تركيب الماضي البعيد لاستكشاف خفايا النفس البشريّة. ويعتمد منهجه الفكري، والفلسفي على حلّ ألغاز الأساطير، والأحلام، والقصص. وعندما يلتقي فرويد بمرضاه، كانت الحكايات التي يروونها، وأيضا الروايات التي يقرؤها، تساعده على التعمق في تحاليله النظريّة، وتجاربه العمليّة. ومثل أوديب الملك، كلّ فرد يواجه مصيره وحيدا، ومن دون سند. وعلى الأريكة المغطاة ببساط فارسيّ، يتحوّل المريض من خلال سحر الكلمات إلى بطل تراجيديّ. وها هو يصبح هاملت، والليدي ماكبث، أو الدكتور فاوست، أو إحدى شخصيّات موباسان، أو أناتول فرانس، وغيرهما. ولكي يستكشف أقنعة النفس البشريّة، يتحوّل فرويد إلى مفتّش، ومستقص، ووثائقي، ونحّات، وكيميائي، ولاعب شطرنج، ومقامر، وكاتب، وعالم آثار، ذلك أن “صناعة الفكر” بحسب تعبير غوته في “فاوست” هي مثل مهنة النسّاج حيث حركة الرّجل تحرّك آلآف الخيوط. عند الساعة الواحدة بعد الزوال، يغلق فرويد عيادته، وينتقل إلى قاعة الأكل حيث تنتظره زوجته، ومعها أطفاله. إنه زوج وأب مثالي. لكن بعد أسبوع يقضيه مستغرقا في عمله، وفي أبحاثه، هو يحبّ أن يرافق عائلته إلى الحدائق، أو إلى المتاحف، أو إلى المتنزهات المحيطة بفيينا. وهو يعلم جيّدا أن حياته العائليّة مرتبطة ارتباطا وثيقا بحياته العلميّة. وذات مرّة كتب إلى صديق حميم يقول له إنه في نفس اليوم الذي فقد فيه ابنه اوليفر، توصّل هو إلى بلورة مفاهيم نظريّة جديدة. وهو عادة ما يذهب إلى الأوبرا إمّا وحده، أو مرفوقا بعائلته. وكانت الأوبرا التي كانت تعجبه أكثر من غيرها هي “النصّابون” لفاغنر. ويفضّل فرويد المطالعات الأدبيّة على المطالعات العلميّة حتى أنه لم يتردّد في القول ذات مرّة إن مثل هذه المطالعات (يقصد العلمية) هي بمثابة “حصّة تعذيب ” بالنسبة إليه. وكان يعشق بالخصوص قراءة مغامرات شارلوك هولمز.

وفي الرسائل التي كان يبعث بها إلى أصدقائه يمكننا أن نلاحظ مدى الانسجام بين أفكاره وحركته اليوميّة، وبين قراءاته، وتجاربه العلميّة، والطبيّة، وبين حياته الجليّة، وحياته النظريّة. بعد الغداء، وعلى مدى ساعة تقريبا، يتجوّل فرويد في شوارع فيينا القديمة، متوقّفا من حين الى آخر عند مكتبة، أوعند محلّ لبيع التحف القديمة. بعد ذلك يعود إلى عيادته ليستقبل مرضى من دون موعد. لكلّ واحد من هؤلاء يخصّص 55 دقيقة، متوقّفا بين وقت وآخر لشرب الشاي، أو لتدخين سيجار. في الليل يصاحب عائلته الى المسرح، أو إلى الأوبرا، أو يذهب الى إحدى المقاهي الشهيرة في فيينا حيث يجتمع ألمع المثقيفين، والمبدعين، والمفكرين، والفنانين. وعند عودته من السهرة، ينزوي من جديد في مكتبه ليكتب رسائل إلى أصدقائه، أو ليسجل ملاحظات، وأفكارا طرأت على ذهنه في ذلك اليوم، أو في ذلك الحين. وهو عادة ما يبدأ بعناصر محدّدة إذ أنه يفضّل حين يكتب أن يركّز كلّ الضّوء على نقطة غامضة. ويظلّ فرويد في مكتبه راسما “خارطات جغرافية وسايكولوجيّة” حتى الثانية صباحا. إنه لا يحتاج إلاّ إلى القليل من النوم. ألم يكن يتمنّى وهو في عزّ الشباب أن “يكدّر نوم العالم؟”.

في عام 1923، أصيب فرويد بسرطان في الشّدق. وبسب ذلك أُخضع حتى وفاته إلى أزيد من ثلاثين عمليّة. وقد أجبره هذا المرض العضال على الانصراف عن الحياة العامة، مكلّفا ابنته آنّا بتمثيله في اللقاءات الدولية. مع ذلك ظلّ مثابرا على العمل. وقد كتب يقول: “لا أستطيع أن أتمثّل الحياة من دون عمل. بالنسبة إلي، العيش بالخيال، والعمل متّحدان، ومنسجمان إلى حدّ لا يمكن الفصل بينهما. لا شيء آخر يسلّيني!”. وفي عام 1930، حصل فرويد على جائزة “غوته” غير أن النازيين أحرقوا كتبه عقب مرور عامين على ذلك. وعندما كانت الفاشيّة تزحف على أوروبا مثل عاصفة عاتية، تبادل فرويد مع أينشتاين رسائل ندّدا فيها بالحرب، والعنف. وبمناسبة الاحتفال بعيد ميلاده الثمانين، ألقى الكاتب الألماني الكبير توماس مان في “الجمعية الأكاديميّة للسايكولوجيا الطبيّة” في فيينا محاضرة تحت عنوان: “فرويد والمستقبل” نوّه فيها بأعمال فرويد، ونظريّاته، واكتشافاته معتبرا إيّاه واحدا من أعظم العقول التي عرفتها البشرية على مرّ الدهور. وعندما احتلت ألمانيا النازية فرنسا، فرّ فرويد إلى لندن بصحبة عائلته، غير أن ابنته آنّا وقعت في قبضة “الغاستابو”، وحبست ليوم واحد، ثم أطلق سراحها. وفي العاصمة البريطانية توفي فرويد وذلك في الثالث والعشرين من سبتمبر – أيلول 1939.

Leave a Reply