عبقرية الثورة المصرية.. حكايات نفسية

سامح سامى

منذ أيام كان البكاء بين يدى أبناء الثورة..

 

هو المشهد الطاغى على الساحة، الذى لم يكن يخطر على بال أكثر كتاب الدراما تشاؤما. لكن هذا النواح، مع الاعتذار للشاعر الكبير أمل دنقل، لا يبرح مكانه إلا بأمل جديد فى موجات متتالية من ثورة شكلت ولا تزال وعينا، الذى بدأ فى التفتح بعد سقوط النظام. المقلق هو دم الشباب الذى ينزف من جرح غائر يرتكبه أعداء ثورة التغيير. 

 

ولا سبيل لدينا إلا الصمود مع انتظار موجات عاتية من الثورة، كالتالى نشهدها هذه الأيام، مع قراءة بعض التجارب التى يمكن أن نستمد منها العافية مرة أخرى.

 

كثيرة هى الكتب التى صدرت منذ فبراير الماضى عن الثورة، بعضها سيظل مشهودا له، والآخر سيتحول إلى مجرد «رقم إيداع» فى أرشيف دار الكتب. لكنها فى النهاية مجرد «تجميع مقالات»، لا تصلح لكل زمان ومكان.. وبالتالى اختفى التأليف!.

 

لكن السؤال الملحَّ هو ماذا يعنينا أن نقرأ تحليلا نفسيا للثورة المصرية؟ لتبرير هذا أطلق د. محمد المهدى كتابه «عبقرية الثورة المصرية» الصادر عن الشروق، مبررا أن المعنى النفسى الكامن وراء أحداث الثورة قلما نهتم به فى ثقافتنا العربية، «فكثيرا ما نجرى وراء الأحداث الظاهرة وننسى التركيبات النفسية التى صنعت هذه الأحداث».

 

هناك نوع من الابتعاد الواعى عن كتب علم النفس، حيث تغلب المقولة: «إن الأطباء النفسيين هم مرضى». وعلى هذا الأساس يتعامل الناس مع الطب النفسى. رغم أن أكثر الكتب تشويقا هى الكتب النفسية التى تتحدث عن أناس مختلفين. يجوز أن تكون أنت أو أنا واحدا منهم. كلنا بدرجة من الدرجات مرضى نفسيون، وأحيانا مجانين.

 

ولا يستطيع أن يفسر أفعالنا التى نعملها، بدون وعى، إلا واحد مثل الدكتور المهدى الذى يصر على أن الثورة المصرية عبقرية، ولعله هنا يلصق العبقرية بالثورة. هذا المصطلح المثير للجدل الذى يستدعى حكايات عن وادى عبقر الذى يصيب المجانين أو الملهمين.

 

وشأنه شأن كتب كثيرة، يلح أن تغلقه قليلا، وأنت تقرأه لتفكر فى حشد الأفكار، ولا تهدأ حتى تقول معه حق: «ما يقوله يحدث فعلا». اقرأ مثلا ما يذكره عن مدرس كان يتهرب من لجان الامتحانات خوفا من فتك الأهالى به؛ لأنه يقف ضد الغش، فالأهالى يرون أن الغش حق مكتسب، وهو يرى أنه فساد وصل إلى مواطن العفة. ومن هنا، بدأ يفصص د. المهدى الفساد وأسبابه وأركانه.

 

وفى أحيان أخرى كثيرة، تعترض على ما يدفع به د. المهدى، من دفوع وشروح تنتمى إلى ما نطلق عليه علم النفس الإسلامى. هذا الوهم الذى يطلقه البعض دون تفكير أنه لا يستقيم أن يرتبط العلم بدين، فليس هناك علم نفس مسيحى وآخر إسلامى، العلم علم، لا دين له.

 

يشفع للكتاب، وهو مهم بالفعل، أنه غير أكاديمى، لا يصعب فهمه، وإنما هو كتاب لا يشعرك بتقعير العلم، فيخدعك وأنت تقرأه. هو مجموعة مقالات متفرقة، تجتمع على شىء واحد: التحليل النفسى والاجتماعى لأحوال المصريين قبل وبعد 25 يناير». قسمه إلى ثلاثة أبواب رئيسية؛ الأول يرصد ويحلل أحوال المصريين قبل ثورة 25 يناير، ويركز على العوامل التى ساهمت فى قيام الثورة. والثانى يحلل مشهد الثورة (التى عايشها وشارك فيها) فى ميادين مصر وشوارعها، ويتناول عودة الروح والوعى للشعب المصرى. والثالث يتناول فترة ما بعد سقوط النظام، ويصف المشهد الحضارى للثورة المصرية من حيث سلميتها ورقيها وتحضرها، ويرصد تغير صورة الذات عند المصريين وتنامى الشعور بالانتماء الذى كان قد وصل إلى الحضيض قبل الثورة. وفى هذه الأبواب الكثير من الحكايات المسلية، التى تبدو كذلك، ولكنها تشرح بوعى نفسية الشعب المصرى، ويحكى عن اجتماع فريق «نفسانيون من أجل الثورة»، وعددهم ثلاثة وعشرون من المتخصصين فى الطب النفسى وعلم النفس، عقد فى مارس الماضى، ويطرح الأسئلة التى دارت فى هذا الاجتماع، ثم يكتب نبذة عن مصطلحات: الصدمة، الخوف، الذى يشمل: المشاركون فى الثورة، الصامتون، المناهضون، وصورة الذات، والانتماء، والتعصب. ويتنازل كثيرا د. محمد المهدى، وهو رئيس قسم الطب النفسى بجامعة الأزهر بدمياط. وعضو مجلس إدارة الجمعية المصرية للطب النفسى، ومجلس إدارة الجمعية العالمية الإسلامية للطب النفسى. مستشار التحرير بمجلة «النفس المطمئنة»، عن دور المحلل النفسى، ويقفز إلى دور الداعية إلى الأفكار الثورية، فيحث القراء على المحافظة على الروح الثورية ـ محذرا من الفتن الطائفية والاستقطابات والانقسامات.

 

Leave a Reply