الثورات العربية في مواجهة الحماقة السياسية!

ثلاث ثورات عربية أطاحت، في مدى زمني بالغ القصر لم يتعدّ شهوراً معدودة، ثلاثة رؤساء جمهوريات، هي الجمهورية التونسية وجمهورية مصر العربية والجماهيرية الليبية. ألا تعد هذه ظاهرة تستحق التحليل العميق، ليس فقط من الناحية السياسية، ولكن من منطلقات علم النفس السياسي؟

وإذا أردنا أن نوجز هذه الظاهرة في عبارة واحدة دالة لقلنا إنها نتاج طبيعي لتزاوج السلطة الباطشة مع الحماقة السياسية!

وليس هناك من شك في أن الرؤساء الذين أطيح بهم وهم بن علي ومبارك والقذافي، مارس كل منهم سلطة باطشة كل بطريقته التعسفية المتفردة، وإن كان يجمعهم عنوان واحد هو الديكتاتورية!

قام نظام بن علي على أساس دولة بوليسية ألغت سيادة القانون، ومارست القمع السياسي إزاء المعارضين بكل قسوة ووحشية، وتزاوجت في جنباتها ظاهرة احتكار السلطة واحتكار الثروة معاً، من خلال شبكة فساد شديدة الاتساع، بدءاً من رئيس الجمهورية نفسه وزوجته وأقاربه وأقاربها، وامتدت إلى شبكة محدودة العدد من العملاء السياسيين، سواء كانوا من أهل السلطة أو من رجال الأعمال الذين أثروا بالباطل على حساب الشعب التونسي الذي أصابته بطالة الشباب على وجه الخصوص بجرح غائر. ولم تكن الثورة التي أشعلها إحراق محمد بو عزيزي نفسه إلا احتجاجاً شعبياً على كل ممارسات الدولة التونسية البوليسية.

أما حالة مصر فهي تبدو مختلفة نسبياً، فقد كانت فيها تعددية سياسية مقيدة، وإن كان الحزب الوطني الديموقراطي الذي كان يرأسه مبارك هو حزب الغالبية بالتزوير العلني، والذي من خلاله أقصيت كل أحزاب المعارضة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، لتصبح الدولة المصرية دولة بوليسية بالكامل، بعد أن مارست من قبل دور «دولة القانون»، وفي إطارها كانت تمارس بعض الحريات السياسية المحدودة وأبرزها حرية التعبير عن معارضة النظام في الصحف المستقلة.

غير أن نتيجة تراكم السخط الشعبي على دولة الفساد والقمع انفجرت ثورة 25 يناير لتسقط النظام وتخلع رئيس الجمهورية.

أما الحالة الليبية فهي حالة فريدة في جانبها، وذلك لأن العقيد معمر القذافي أسس بعد الثورة نظاماً شمولياً قمعياً بالكامل، وحطم كل المؤسسات السياسية والاجتماعية والثقافية الليبية، ومارس قهر الجماهير بصورة منهجية، ولم يتورع عن إصدار أحكام بالإعدام على الطلاب الجامعيين الذين عارضوا سياساته، ومارس ارتكاب جرائم الإرهاب الدولية، وبدد ثروة الشعب الليبي في حروب مصطنعة، ونصب نفسه – من باب جنون العظمة الذي قضى عليه أخيراً - ملكاً لملوك أفريقيا!

وفجأة وعلى غير توقع وانتظار بدأت شعلة الثورة في بنغازي، لتمتد بصعوبة بالغة وبمساعدة دولية بارزة من حلف الـ «ناتو» إلى كل أنحاء ليبيا حتى وصلت إلى طرابلس التي غادرها القذافي محاولاً الهرب من مصيره المحتوم الذي لاقاه في سرت حيث قبض عليه وتم قتله.

وقد أبرزت الثورات الثلاث أن رؤساء الجمهورية المخلوعين مارسوا في الواقع الحماقة السياسية في أجلى صورها، وتبدى ذلك في عنادهم وإصرارهم على منع التحول الديموقراطي، لكي يساعد على نقل مجتمعاتهم من الديكتاتورية إلى الديموقراطية بصورة سلمية متدرجة.

والسؤال الآن كيف تزاوجت ممارسة السلطة الباطشة مع الحماقة السياسية؟

للرد على هذا السؤال قلبت صفحات مقالاتي القديمة واكتشفت أنني حاولت الرد عليه من خلال مقالين، الأول عن «الجمود الإدراكي للنخب السياسية الحاكمة»، والثاني عن «عصر الحماقة السياسية».

وقررت في المقال الأول أن خطورة ظاهرة الجمود الإدراكي للنخب السياسية الحاكمة أن أعضاءها - على اختلاف مراتبهم السياسية - يعجزون عجزاً واضحاً عن قراءة البنية الدولية والإقليمية والمحلية المحيطة بهم، وأحياناً يعجزون عن قراءة وفهم التيارات العميقة التي تعمل بصمت داخل ثقافة وفضاء مجتمعاتهم! وهذا العجز تبدو خطورته في أنه ينعكس على عملية صنع القرار، وبالتالي تخرج قرارات مهزوزة لا تستند إلى معطيات حقيقية تتسم بالثبات والصدق، وهكذا ينحرف مسار الممارسة.

ويبدو صدق هذا التحليل في أن بن علي أدرك متأخراً جداً خطورة الثورة التي قامت ضد نظامه، وعبر عن ذلك في خطابه الأخير والذي بدا فيه في منتهى الفزع وهو يصيح «فهمتكم فهمتكم! لا خرطوش ولا تمديد!».

أليست هذه العبارات الدالة تكشف عن صلابة الجمود الإدراكي الذي هيمن عليه طوال سنوات حكمه، ولم يفق منه إلا على صدى طبول الثورة القارعة؟

والمسألة نفسها بالنسبة إلى الرئيس السابق مبارك، والذي تحرك متأخراً بعد اشتعال الثورة وقرر إقالة حكومة أحمد نظيف، والتي كانت رمزاً للفساد، وتعيين نائب لرئيس الجمهورية هو عمر سليمان، بعد ممانعة شديدة من جانبه لاتخاذ هذا القرار، حتى تخلو الساحة لابنه جمال الذي خطط لتوريثه رئاسة الجمهورية!

أما القذافي والذي نعت جماهير شعبه التي قامت بالثورة ضده بأنهم «جرذان»، فقد منعه الجمود الإدراكي من أن يدرك خطورة الثورة وحتمية امتدادها إلى قلب طرابلس، وتصميم قادتها على القضاء عليه باعتباره رمزاً للاستبداد حياً أو ميتاً!

ولا بد لنا من تأكيد أن ظاهرة الجمود الإدراكي التي تصيب النخب السياسية الحاكمة، وتؤدي في النهاية إلى الحماقة السياسية لا تقتصر على العالم العربي، بل إنها لوحظت بالنسبة إلى النخب السياسية في الدول التي تنعت عادة بأنها متقدمة مثل الولايات المتحدة الأميركية.

وهكذا يمكن القول إن هناك حماقة سياسية يمارسها «المتقدمون» وأخرى يمارسها «المتخلفون».

ومن أبرز ظواهر الحماقة السياسية التي مارسها «المتقدمون» فعلاً القرارات الهوجاء التي أصدرها الرئيس السابق جورج بوش عقب أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، بإعلانه الحرب على الإرهاب والتي بدأها بالغزو العسكري لأفغانستان ثم بالغزو العسكري للعراق.

وقد ثبت من واقع الممارسة أنه بذلك أوقع نفسه في المستنقع الأفغاني والذي هو شبيه بالمستنقع الذي سبق لرؤساء أميركيين سابقين أن أوقعوا فيه الولايات المتحدة في فيتنام.

وأدت الحماقة السياسية ببوش إلى أن أميركا انسحبت من العراق وهي تسعى الآن إلى الانسحاب من أفغانستان وهي مهزومة تماماً في كلتا الحالتين، ودفعت أثماناً باهظة لخوض هذه الحروب الطائشة.

غير أن لو نظرنا إلى العالم العربي فلن تعوزنا نماذج بارزة لـ «حماقة المتخلفين» من القادة العرب، ابتداء بصدام حسين الذي لقي مصيره مشنوقاً بعد مغامرات عسكرية أضاع فيها أرواح ملايين العراقيين وبدد ثروات العراق وقضى على استقلاله، إلى كل من بن علي ومبارك والقذافي.

وهكذا تتأكد الصلة العضوية الوثيقة بين الجمود الإدراكي للنخب السياسية الحاكمة وممارسة الحماقة السياسية التي تدفع ثمنها الشعوب!

ويبقى السؤال المهم: هل ستستطيع النخب السياسية العربية الحاكمة بعد الثورة أن تمارس العقلانية من خلال تفاهم سياسي بين كل التيارات السياسية أم إن تيار اللاعقلانية سيسود مرة أخرى؟ سؤال يجيب عليه المستقبل القريب!

* كاتب مصري

Leave a Reply