الثـــورة والخرافـــة

الثـــورة والخرافـــة

تاريخ النشر: السبت 25 فبراير 2012

عادة ما يبدأ الفلاسفة عناوين مؤلفاتهم بكلمتين، الأولى تشير إلى المذهب الخاطئ ، والثانية إلى المذهب الصحيح. هكذا فعل برجسون مثلاً في "المادة والذاكرة" و"التطور الخلاق". وهنا يعز علينا البداية بالخرافة قبل الثورة، فالثورة في القلب وعلى اللسان وإن لم تكن في العقل بعد. والخرافة في الوجدان كله. الثورة عند الثوار، النخبة الشابة، والخرافة ما زالت المكون الرئيسي للثقافة الشعبية، والقادر على تحريك الجماهير. الثورة تندلع وتنطفئ. مداها قصير. في حين أن الخرافة راسخة، مداها طويل، ولا تنقشع إلا بعد نضال عدة أجيال.

لقد تم الحديث عن وسائل الاتصال الحديثة: الفيسبوك، والتويتر، واليوتيوب، وعن فضلها في اندلاع الثورة. ولقد غالى بعض علماء الاتصال في التوحيد بينها وبين الثورة ذاتها، بين الوسيلة والغاية، بين الأداة والهدف. ومع ذلك ظلت وسائل الاتصال العادية خاصة القنوات الفضائية التي انتشرت قبل الثورة وبعدها مؤثرة في الجماهير، لا فرق بين بعض مشايخ الفضاء ونجوم الفن. لكل جذبه الإعلامي ومعجبوه. وأصبحت موضوع حديث الناس في حياتهم اليومية.

وذاعت أخيراً قنوات تعلن عن مشايخ لعلاج الوساوس والهواجس والظنون والأوهام. تقرأ الكف، وتعرف الطالع. وتستعين بقوى الأفلاك. وتوصل المشاهد بعالم الغيب، الجن والشياطين، وتعين على إبليس، وتساعد في معرفة القرين! فلكل إنسان قرين. ومن يقوم بذلك بعض مشايخ الفضاء بألقابهم وزيهم وسماتهم وابتساماتهم التي تزرع الأمل في قلوب المأزومين والمحتاجين. هم موجودون على مدار الساعة ليل نهار للعون والسؤال بالهاتف وكأنهم لا ينامون. وربما يرد على الهواتف موظفون لديهم. فلا أحد يستطيع أن يستيقظ على مدى أربع وعشرين ساعة. وربما يتحول بعض المشايخ إلى أطباء بلقب الدكتور. وحبذا لو كانت دكتورة لتساعد النساء، نصف المجتمع في المسائل العائلية. وكل امرأة لها مشكلة مع زوجها لا تجرؤ على البوح بها في المجتمع الذكوري فتجد في هذا البرنامج خير متنفس. وتستطيع الدكتورة أيضاً مساعدة النساء في البحث عن الأزواج في برامج عنوانها "عاور أتجوز" أو "جوزني"، سهلة، وبسيطة في مجتمع نسبة العنوسة فيه تفوق التصور، والصعوبات المادية لا يسهل اجتيازها، ونسبة الطلاق فيه أيضاً مرتفعة.

وهي كلها مشاكل موجودة بالفعل ولكن حلها ليس بالخرافة أو الخداع أو الإيهام أو النصب والاحتيال العلني. حلها في العلم. فكل ما يحدث في النفس من هواجس ووساوس حلها في علم النفس وعلاجها في التحليل النفسي. وكل ما يتعلق بالمستقبل وقراءة الطالع والتنبؤ بالنجوم حله في علم التخطيط. وكل ما يتعلق بأزمات الحاضر وسوء التكيف مع المجتمع حله في علم الإدارة والعلاقات العامة.

والثورة حدث اجتماعي وسياسي وتاريخي يهز الأعماق. يمكن أن يُفهم عن طريق الخرافة أو عن طريق العلم. فإذا قيل هو قدر ومصير محتوم فهو خرافة. وإن قيل هـذه مرحلة تاريخية قد انقضت فللنظم السياسية أعمار وأحقاب، نهضة وسقوط فهو علم. وإن قيل لك يوم يا ظالم فهي ثقافة شعبية. وإن قيل هذا إعداد وتخطيط وتجنيد للشباب فهو علم. وإذا قامت الثورة على خرافة فإن الثورة المضادة تقوم على خرافة مضادة. وفي الثقافات الشعبية هناك الأمثلة والأمثلة المضادة. هناك من يقول "لا يغني حذر من قدر"، وهناك أيضاً من يقول: "قوم يا فلاح وشرشر منجلك".

تقوم الثورة على العلم بعد أن تخلص الثقافة من الخرافة. وهذا هو ما حدث في معظم الثورات التي لم تنتكس وتتحول إلى ثورة مضادة. فقد قامت الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر بعد أن تخلص الوعي الأوروبي من سلطة الكنيسة في الإصلاح الديني في القرن السادس عشر، ومن ثقافة العصر الوسيط في القرن السابع عشر اعتماداً على العقل والعلم. ثم بدأ عصر التنوير في القرن الثامن عشر. ونشأت نظريات العقد الاجتماعي لتفسير نشأة السلطة، وأعلن عن حقوق الإنسان وحقوق الشعب. وأصبحت الثورة ثقافة سياسية قبل اندلاعها كحدث سياسي، ثورة في العقول والأذهان والتصورات للعالم قبل أن تكون ثورة في السجون والإقطاعات. ووقعت الثورة الاشتراكية الكبرى باعتبارها اشتراكية علمية وليست اشتراكية دينية أو أخلاقية أو طوباوية. ووقعت الثورة الأميركية بعد انتشار أفكار الثورة الفرنسية، الحرية والإخاء والمساواة. فإذا كانت الاشتراكية هبة من الزعيم فإنها تقوم على خرافة، وإذا ما دُبر انقلاب ضد الزعيم أو أتاه الأجل عاد المجتمع إلى ثقافته أو إلى خرافاته الموروثة.

لقد قامت الحضارة الإسلامية على مدى سبعة قرون على العلم، استيعاباً لعلوم القدماء واستكمالًا وتطويراً لها. وانتقلت إلى الغرب في العصر الوسيط فأقام نهضته الحديثة على العلم. وقد تكون إحدى علامات سقوطه نقده للعلم.

والآن التحدي أمام ثورة يناير. هل تقوم على العلم أو تقوم على الخرافة؟ إن المطالبة بالقضاء على القهر دفاعاً عن الحرية علم، هو علم التحرر. والدفاع عن الكرامة ضد اختراق حقوق الإنسان والشعوب علم الحقوق وليس مجرد مطلب أخلاقي. والمطالبة بالعدالة الاجتماعية لحل قضية الفقر علم يعرفه أهل الاقتصاد وليس فقط صرخة المستضعفين المعدمين. وقد تقوم الثورة على شعارات قد تكون في حد ذاتها صحيحة ولكن في ممارستها خرافة.

يتحول العمل إلى علم عن طريق بيان مسار التقدم إلى الأمام وليس إلى أعلى، أفقياً وليس رأسيّاً. يتحول إلى علم عن طريق التخطيط وبيان طريق العبور من الأزمات. وبعض الشعارات تعبر عن الموروث الشعبي الخرافي في حين أنها يمكن أن تتحول إلى برامج سياسية فتصبح علماً. وقد تتحول الانتخابات إلى خرافة إذا كانت صورية لا تقوم على اختيار بين برامج. وقد تكون علماً إذا تمت والناخبون على دراية ماذا ينتخبون ولمن يعطون أصواتهم.

إن الدفاع عن الثورة ليس فقط في تحويلها إلى دولة ولكن في تأسيسها كعلم بنقل المجتمع كله من الخرافة إلى العلم، ومن الأسطورة إلى العلم، ومن الجهل إلى العلم، ومن التمنيات والأمنيات والأدعية والشعارات إلى العلم التفصيلي والبرامج السياسية التي تقوم على علم. كما أن التراكم التاريخي ضروري، وربط الحاضر بالماضي لمعرفة سبب الانتكاسات التي حدثت في تاريخنا الحديث ضروري أيضاً لفهم سبب التراجع في الحركة الإصلاحية التي بدأت بمواجهة الاستعمار في الخارج والاستبداد في الداخل ثم تحولت الآن لظروف كثيرة إلى حركة ماضوية تعنى بالمظهر والشكل. وسبب الردة في الليبرالية التي بدأت منذ أكثر من قرن ونصف وتحولها إلى استبداد صريح أو مقنع! وسبب الردة في النهضة العلمية وتحويلها إلى دعوات العلم والإيمان أو إلى ربط العلم بالإلحاد وإنكار العقائد! تحتاج الثورة إذن للدفاع عن نفسها إلى التخطيط على الأمد الطويل، والتحول في الثقافة من الخرافة إلى العلم، ونقل المجتمع كله من مرحلة تاريخية إلى مرحلة تاريخية أخرى، والتخطيط على الأمد الطويل حتى لا تتعرض إلى انتكاسات. فليس المهم من يحكم في السلطة بل من يتحكم في العقل. صعوبات المرحلة الثورية واردة في كل الثورات: غياب القيادة الموحدة، تفرق القيادات والصراعات بينها، الثورة المضادة، الفوضى. وذلك طبيعي، فرصة لمعرفة الأسباب في العمق من أجل القضاء على جذور الثورة المضادة وفي مقدمتها الخرافة والتحول من الخرافة إلى العلم.

Leave a Reply