الاستجابة الصحيحة لحاجات الطفل

قدّم علم النّفس الحديث الكثير من الحقائق عن عالم الطّفولة، تلك الحقائق الّتي أحدثت ثورة في عالم التّربية، وقد عبّر عن ذلك فولكييه في كتابه (المدارس الحديثة)، فقد غدا الطّفل محور العملية التّربوية كلّها، وأصبحت مهمة التّربية تقديم يد العون للطفل كي ينمو نمواً سليماً ومتكاملاً ومتوازناً في مختلف جوانب شخصيته (الجسدية والعقلية والانفعالية والاجتماعيّة). وقد أكّدت الأبحاث التّجريبية، النّفسيّة منها والتّربوية، أنّ هذا النّموّ يتم عن طريق التّفاعل بين الطّفل والبيئة، أيّ أنّ العملية التّربوية يجب أن تقوم على التّفاعل بين مؤثرات البيئة والقوى النّفسية الدّاخلية، لأنّ البيئة لا تؤثر في الفرد من النّاحية النّفسية إلاّ بقدر ما تثيره من النّشاط؛ فالفرد لا ينشط إلا استجابة لحاجات نفسية يشعر بها.

إذاً، التّربية إضافة إلى كونها عملية تحسين التّكييف مع البيئة المادية، هي عملية تحسين التّكييف مع البيئة الاجتماعيّة، لأنّ سلوك الأشخاص ومثلهم العليا واتجاهاتهم تنطبع إلى حدٍّ بعيد بطابع ما هو سائد في الحياة الاجتماعيّة الّتي ترعرعوا فيها، وهذا يعني ترابط النّظام التّربوي مع النّظم  الاجتماعيّة والاقتصادية والسّياسيّة، ومن الضّروري أن نراعي أثر التّطور العلمي والتّكنولوجي على هذه النّظم، لذلك تتوجه غالبية دول العالم اليوم إلى كسر الطّوق الّذي جمدت فيه الكثير من النّظم التّعليمية، وذلك بسبب ازدياد وعي المهتمين بشؤون التّربية والمجتمع، وبسبب ما أحدثته التّطورات التّقنية من تغييرات أساسية في بُنى الحياة الاجتماعيّة والاقتصادية والسّياسية والثقافية، وذلك بجعل النّظام التّربوي ملائماً لقدرات الطّفل وحاجاته من جهة، ولمتطلبات الحياة الاجتماعيّة والاقتصادية من جهة أخرى، من أجل ذلك صنّف الأخصائيون الاتجاهات التّربوية في نموذجين مختلفين: نموذج التّربية الأكاديمي، والنّموذج الوظيفي.

التّربية الأكاديمية والتّربية الوظيفية

تضع التّربية الأكاديمية في رأس اهتماماتها إغناء ذهن المتعلّم بالمعارف والمعلومات، ولذلك تعتمد على حشو أذهان التّلاميذ بهذه المعارف والمعلومات بصورة مجرّدة في أغلب الأحيان، وبما لا يتفق مع ميول الأطفال واهتماماتهم ولا يساعدهم على فهم الواقع والتّعامل النّاجح مع متطلبات الحياة.

ويصبح الامتحان في مثل هذه النّظم هو معيار النّموّ العقلي، وهذا النّموذج من الامتحان يختبر قدرة التّلميذ على الحفظ فقط. و لعل من أهم سمات التّعلّم الأكاديمي هي الإبقاء على ما كان سائداً، مع إعطاء القليل من الأهمية للعمل اليدوي بالمقارنة مع العمل النّظري والفكري. إضافة إلى تفريع التّعلّم إلى فروع كثيرة ومختلفة وإبقاء الفصل شبه كامل بين المدارس المهنية ومدارس التّعليم النّظري.

إذاً في التّربية الأكاديمية تكون المناهج مثقلة بمواد كثيرة وكثيفة، ولا تترك وقتاً كافياً للمعلّم كي يحلّل المعلومات والنّظريات الّتي يشرحها ويعمّقها، لأنّه مُطالب بإنهاء المنهاج الرّسمي المقرر، ولا يجد التّلميذ الوقت الكافي كي يعود إلى المراجع الّتي تساعده على سدّ الثغرات في المعلومات المجرّدة الّتي يحصل عليها وإغنائها وتطويرها. ولهذا نجد التّلميذ في مثل هذه النّظم يقع باستمرار في عدم الدّقة في استعمال الكلمات وعدم الثّقة في المعلومات الّتي يحصل عليها، لذلك فهو يعمد إلى تأكيد ذاته عن طريق عرض معلومات كثيرة وهامشية لا تدخل في صلب الموضوع الّذي يتحدّث عنه أو يكتب فيه. وقد وسم المختصون هذا النّوع من التّربية بالعقم وبالعجز عن استكشاف التّغيرات المستقبلية للمجتمع فضلاً عن عدم تكييفه لملاءمة احتياجات هذه التّحولات، وهكذا فهي تلقي بالشّباب في هوة مستقبل لا يفهمه وليس مستعداً للتعامل معه، فيعيش في قلق ورعب وتتراكم في نفسه مشاعر القلق والرّعب بل والكراهية أحياناً لهذا المستقبل.

(فليست مناظر التّلاميذ الّذين يهربون من المدارس ويتسكعون في الشّوارع يزعجون الجميع أو يتزاحمون على أبوب السينما يطلبون مشاهدة أفلام الجنس الرّخيص أو العنف المدمر إلاّ دلالات على ضياعهم في مدارس لا تحقق لهم فرص إشباع رغباتهم أو حتّى تلبية بعض الملح من حاجاتهم).

لمثل هذه الأسباب وغيرها يدعو المربون وعلماء النّفس وسائر المهتمين بالشؤون الاجتماعيّة والاقتصادية إلى تربية وظيفية تهتم بحاجات الطّفل وتعمل على تلبيتها بدلاً من كبتها، تربية تستند على مبدأ أنّ المعرفة الحقيقية ليست معرفة جامدة تستمد من الكتب، وإنما هي قوّة لمواجهة المواقف الجديدة، وأنّ النّشاط أبرز مميزات الطّفولة، فعلى المدرسة أن تلتزم في تأسيس عملها على ميول الطّفل الطّبيعية وأن تبعث فيه الرّغبة الصّادقة في العمل.

يحللّ (ديوي) ميل الطّفل إلى العمل إلى أربعة أنواع:

1. الميل نحو المحادثة والاتصال الاجتماعيّ.

2. الميل نحو البحث واقتناء الأشياء.

3. الميل للعمل.

4. الميل نحو التّعبير الفني.

فالعملية التّربوية ينبغي أن تكون عملية إفراج عن القدرات المختلفة في الطّبيعة البشرية، لأنّها عملية نمو من الدّاخل وهي ملتزمة بتفتح إمكانيات الطّفل ومواهبه وتفجير طاقاته. لا يمكن تحقيق ذلك إلاّ عندما يصبح التّعلّم فعّالاً مستنداً إلى ميول الطّفل مُلبياً لحاجاته الطّبيعية.

وهنا يأتي دور التّربية الوظيفية الّتي تعمل على الاستجابة لحاجات الطّفل وتتلاءم مع ميوله واتجاهاته النّفسية، وتقوم على أساس (الحاجة إلى العمل، إذ إنّ الحاجة والاهتمام الصّادر عنهما هما العامل الأساسي الّذي يجعل من الاستجابة عملاً حقيقياً) وقد أكّد ذلك كلاباريد بقوله (إنّ قانون الاهتمام هو الوتد الوحيد الّذي ينبغي أن يدور حوله كلّ شيء، وإنّ العمل الّذي لا يرتبط مباشرة بحاجة من الحاجات شيء مخالف للطبيعة، فإذا أردت أن يعمل الطّفل ضعه في جوّ وظروف تشعره بالحاجة إلى القيام بالعمل الّذي تنتظره منه).

ففرض الجمود والسّكون على الطّفل في مرحلة عمرية تكون الحركة والنّشاط نزعة طبيعية أصيلة فيه مخالف للقوانين الطّبيعية (الفيزيولوجية والبيولوجية).

وقد انتقد (فيريير) المدرسة التّقليدية مبيناً دعائم التّربية الوظيفية والفعّالة بقوله:

(إنّ الطّفل يحبّ الطّبيعة ولكننا نحبسه في غرف مغلقة، إنّ الطّفل يحبّ اللّعب ولكننا نطلب إليه أن يدرس ويعمل، إنّه يحبّ أن يرى نشاطه يؤدي خدمة معيّنة، ولكننا نحاول ألاّ يكون لنشاطه أيّ غاية أو هدف، إنّه يحبّ إمساك الأشياء بيديه بيد أننا لا نفسح له مجال العمل إلاّ لدماغه، هو يحبّ الكلام فنجبره على الصّمت، وهو يود أن يحاكم الأمور، فنطلب منه أن يحفظ، يحبّ أن يبحث عن العلم فإذا بنا نُقدّمه له جاهزاً، يرغب بأن يقوم بخدماته من تلقاء نفسه حراً ولكننا نُعلمه الطّاعة السّلبية).

الطّفل يصرخ مستغيثاً: (ساعدوني أريد أن أعمل وحدي وأن أقوم بالعمل وحدي). وهنا تجيب التّربية الوظيفية على نداء الطّفل لأنّها لا تهتم بحشد المعلومات وتراكمها، وإنما تُعنى بطريقة البحث المنطقي والتّفكير وتسلسل الأفكار والفهم الصّحيح كما تدعو إلى تدريب الطّفل وتعويده على الشّك النّقديّ فليس كل ما هو مطبوع جديراً بالاحترام.

يبقى السّؤال: ما هو دور التّربية الوظيفية في الاستجابة لحاجات المجتمع؟!!

كما أشرنا سابقاً لا يمكن في العملية التّربوي إغفال الوظائف الاجتماعيّة للتربية، ولعل البلدان النّامية هي أشدّ حاجة من غيرها إلى وعي هذه الوظائف الّتي تساعد على الوعي بشخصية المجتمع وقوته في حسن استخدامه للظروف المتاحة والمحيطة به بدلاً من أن تستخدمه هي، وقد عبّر المهاتما غاندي عن ضرورة استجابة التّربية لحاجات المجتمع بقوله لأحد محاوريه: (إذا أمكنني أن أنتج ما تحتاجه الهند بواسطة ثلاثين ألفاً من العمّال بدلاً من ثلاثين مليوناً فلن أعترض بشرط ألاّ يوضع هؤلاء في قائمة العاطلين. بل أن يستغلوا وقت فراغهم في إنتاج بعض الصّناعات الرّيفية الابتكارية مثلاً).

فالتّربية الوظيفية هي في بعض مظاهرها تربية أساسية من أول أهدافها أن تُهيئ المتعلّم كي يُلبي حاجات المجتمع ومطالبه، وهذه المطالب تتمثل بالنسبة للبلدان النّامية بشكلّ خاص في عملية التّنمية.

وقد طالب جون ديوي بمدرسة تكون مصغرة عن المجتمع، فجميع ضروب النّشاط ينبغي أن تقوم بها، وعلى رأسها العمل اليدوي، وأن تصبح المدرسة قادرة على أن تُعدّ الطّفل لمهنة المستقبل.

ويمكن أن نستفيد من رأيه بأن نوجد مثل هذا النّموذج داخل المراكز المجتمعية الّتي مهمتها تنمية مهارات الطّفل الحياتية.

إذاً، لم يعد الهدف من التّربية مقتصراً على القراءة والكتابة وبعض الحقائق والمعارف، بل أصبح ينصب على الحياة بأكملها، ويتجه نحو الإنسان باعتباره غاية، مهمة التّربية أن تساعده على تفتيح إمكانياته وقدراته، وتساعده على التّعبير عن ذاته بمختلف الأساليب والصّور، لأنّ الإنسان هو أثمن رأس مال في الوجود، ولما كانت مشاغل الإنسان متشابكة ومتفاعلة، فعلى غرار الحياة الثّقافية الّتي نتصوّرها، يجب أن تكون الخطط التّربوية على علاقة وثيقة بالخطط المختّصة بسائر قطاعات المجتمع.

المصادر والمراجع:

- مجلة الإنماء التّربوي.

- سلسة عالم المعرفة/ الشّباب العربي والمشكلات.

- المهاتما غاندي: التّربية الأساسية.

-بول فولكييه / المدارس الحديثة.

Leave a Reply