100ألف "بلطجية" في مصر!

  • ميدان التحرير أصبح وكرا لهن ويكتظ بعشرات منهن
  • أساتذة علم نفس: شخصياتهن هشة وضعيفة ونشأتهن مفككة
  • الانفلات الأمني وهروب السجينات ساهم في تفاقم المشكلة

القاهرة - الراية - ريماء عبد الغفور وسعيد خالد:

هي الأم والأخت والزوجة والجدة..هي المرأة التي باتت لغزا محيرا للعديد من المتخصصين في علم النفس والاجتماع بعدما تغيرت ملامحها وتخلت عن أنوثتها وعطفها وأطلقت أظافرها وتحولت من كائن رقيق إلى وحش عدواني ترتكب جرائم في منتهى القسوة سواء قتل أوتجارة مخدرات أو ربما الغوص في بحر الرذيلة...

أصبح لا يمر يوم إلا وتشهد صفحات الحوادث في الصحف المصرية جريمة ترتكبها "سيدة" ..لكن الأغرب ما أكدته دراسة حديثة خرجت عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في القاهرة وهو وصول عدد السيدات اللاتي يحترفن البلطجة في مصر الى حوالي 100ألف وأغلبهن من "المسجلات خطر" في سجلات الشرطة أوالمطلقات اللاتي وجدن معاملة سيئة من أزواجهن وأن معظمهن متواجدات في المناطق العشوائية التي تعاني النساء فيها من سوء الأحوال المعيشية التي أجبرتهن على امتهان البلطجة كوسيلة لكسب الرزق...

ولاحت بشائر هذه الظاهرة مع انتخابات مجلس الشعب لعام 2005 ومنها انتقلن إلى انتخابات الأندية الرياضية والنقابات.
لكل منهن حكاية وقصة مثيرة تخفيها عن الجميع فكلهن في نظر القانون بلطجيات ورغم ذلك تسمعهن يتحدثن عن أنفسهن بأنهن "فاعلات خير" هدفهن رفع الظلم عن المظلوم..

"الراية" فتحت ملف البلطجيات.. وتجولت بميدان التحرير الذي أصبح "مع الأسف" وكرا لهن لعلها تجد بعضا من هؤلاء السيدات وتتعرف على قصصهن وكيف وصن الى ما هن عليه الان؟

وبدأت الرحلة مع "أم فتحي" امرأة بسيطة تجلس في الميدان لبيع الشاي والقهوة دلتنا على بعض من هؤلاء بعد أن اطمأنت لنا وعرفتنا على أحد زميلاتها التي وافقت أن تتحدث معنا بعد أن أخبرتها أم فتحي أننا جئنا بعد ما سمعناه عن عملها في رفع الظلم.

اسمها "سيدة " في الأربعينيات من عمرها ملامحها حادة لا تظهر التعبير الحقيقي لوجهها... في يديها خشبة مستديرة وسميكة "شومة " قالت إنها تعمل في هذه المهنة منذ 10سنوات بعد أن ورثتها عن والدها الذي علمها فنون البلطجة وكيفية حمل السلاح الأبيض "المطواة".. وأضافت أنها لا تعرف غير هذه المهنة وأنهن "هي وزميلاتها" يساعدن في رفع الظلم عن المظلوم لأن طريق القانون طويلة وعلى سبيل المثال "لو زوج مفتري بيضرب مراته وحبت تأدبه مافيش مانع نساعدها ونجيب لها حقها أنا ست برضة وأفهم مدى ما تشعر به هذه السيدة من آلام وكله بثوابه".

وعن دورها في الانتخابات قالت سيدة إنها تقوم بحماية المرشح من زملائه المرشحين وأحيانا يتم استخدمها لحماية أسرته وتقوم بتشجيع الناس على انتخابه ولو تعرض له أحد أنصار منافسه أو أحد البلطجية تقوم بضربه علقة أو تذهب إليه في مقر عمله وترمي "بلاها" عليه وتحرر ضده محضر تحرش أو تعرض لأنثى في الطريق العام وهذا العمل مكلف جداً، ويصل سعر افتعال مشكلة كبيرة مع الخصم من خمسة الى عشرة آلاف جنيه، وتصل من50 إلى 70 ألف جنيه في حال إذا كان صاحب نفوذ وقوي، ويريد المرشح الخاص بنا إسقاطه في الانتخابات.. وأكدت أن عدد السيدات اللاتي يمتهن هذه المهنة كثيرات ويعتمدن عليها في كسب قوت يومهم..

أما "خشبة" كما يطلقون عليها فقالت إنها لا يمكن أن تكون غير بلطجية وعن سبب تسميتها قالت إنها عانت من زوج أمها المدمن الذي يعاملها أسوء معاملة أخرجها من التعليم وأجبرها على العمل في تنظيف المنازل وفي نهاية كل شهر يأخذ راتبها وفي يوم رفضت الذهاب إلى العمل فإذا به ينهال عليها ضربا ولم تجد أمامها غير رجل كرسي مكسورة وضربته بها فأصابته بالشلل ومن وقتها أقسمت "خشبة" أن تأخذ حق النساء المغلوبات على أمرهن بأجر رمزي وأحيانا تساعدهم لوجه الله فهي كما تقول "عانت وتعرف طعم الظلم"....

ووسط الميدان لاحظنا سيدة أخرى تتشاجر مع أحد الباعة الجائلين فتصورنا أنها زبونة وفجأة أخرجت مطواة مهددة بها البائع...وبعد أن انتهت المشاجرة اقتربنا منها بحذر فإذا بها فتاة في العشرين من عمرها رسم الحزن والهم ملامحها ببراعة فحولها من شابة يافعة الى عالم البلطجة..

وعرفنا أن اسمها "ميادة" أو ربما اختارت لنفسها هذا الاسم وحكت لنا عن قصتها فقالت :"لم أجد غير الشارع أعيش فيه بعد أن تم طردي من ملجأ الأيتام الذي كنت أقيم فيه بعد وفاة والداي في حادث سيارة خرجت إلى الشوارع لا أعرف ماذا أفعل وذات يوم تعرفت على "كريم" أحد بلطجية الميدان وعلمني كيفية الدفاع عن نفسي واستخدام السلاح بمختلف أنواعه وعشنا قصة حب توجت بالزواج العرفي حتى أكون في "عصمة راجل".

وأضافت ميادة أنها لاتخشى أبدا استخدام السلاح وإيذاء غيرها والاشتراك في مظاهرة أو خناقة فوجوده المستمر في الشارع تسبب في موت قلبها.

وخطت ميادة خطوات في الميدان وعادت برفقة زميلتها "مشاكل" التي يتم تكليفها بافتعال الخلافات مع الآخرين وإشعال المشاجرات فهي تهوى افتعال المشاكل والخناقات مع الجميع ولكنها رفضت الحديث معنا وأشارت لنا بأصبعها على رفيقة أخرى ترغب في الحديث معنا اسمها "شفرة" فهي لا تحمل في جيبها غير شفرات أمواس الحلاقة أو أى شيء حاد وحصلت على هذا اللقب منذ الصغر عندما اعتدى عليها أحد الجيران وإذا بها تستخدم موس في جيبها وتصيب وجهه بجرح غائر ومنذ ذلك الوقت وهي تعمل في البلطجة وأكدت أنها لا تشعر بالذنب فأغلب ما تقوم به من أجل استرداد الحقوق لأصحابها.
"الراية" توجهت إلى مجموعة من المتخصصين من علماء النفس والاجتماع حول أسباب انتشار هذه الظاهرة الاجتماعية وتداعياتها وجاءت أراؤهم صادمة حيث أشار د.أحمد خيري حافظ أستاذ علم النفس بجامعة عين شمس إلى أن البلطجة النسائية ليست بالظاهرة الجديدة أو الغريبة على المجتمع المصري بل هي موجودة منذ القدم ولكن الانفلات الامني وهروب العديد من السجينات والمجرمات من السجون خلال أحداث ثورة 25 يناير هو ما ساهم في تفاقمها بهذا الشكل الملحوظ..

وأوضح أن ظاهرة البلطجة النسائية ظاهرة نشأت وفق ظروف اجتماعية وأسرية ونفسية متعددة.. وتعتبر نتاجا طبيعيا للعشوائيات التي تعد مأوى للخارجين على القانون ومركز تعليم العنف.. وهؤلاء نتاج طبيعي لتفاعل الثالوث المرعب... الجهل والفقر والبطالة..

وأشار إلى أن الحالة النفسية للسيدة التي تعمل في البلطجة "هشة ومفككة" صنعتها ظروف اجتماعية قاسية وغالبا ما تكون عدائية تجاه المجتمع، نتيجة جهلها وعدم نضج تفكيرها، بالاضافة الى أنهن أبرز ضحايا عدم العدالة الاجتماعية.
وأكد حافظ على ضرورة الاسراع في ايجاد حل جذري وسريع لهذه الازمة قبل أن تتفاقم وتنتشر في المجتمع وطالب الجهات المختصة بضرورة الاهتمام بهؤلاء السيدات ومساعدتهن على عيش حياة كريمة ومنحهن مصدرا للرزق يبعدهن عن هذه الطرق المرعبة.

من جانبه أكد د.هاشم بحري أستاذ الطب النفسي في جامعة الأزهر أن البلطجة النسائية تعتبر انفلاتا سلوكيا‮ ‬غير حضاري يهدد أمن البلاد وهو نتيجة طبيعية لما يعانيه مجتمعنا من ظروف اقتصادية متردية‮ و‬ارتفاع الأسعار‮ و‬تفاوت مستوى المعيشة‮ وارتفاع نسبة البطالة وهو ما يدفع بالأشخاص إلى استخدام العنف سواء لاسترداد حقوقهم أو سلب حق ليس لهم.
‮‬وأكد أننا في حاجة ماسة إلى مشاركة عدة مؤسسات وهيئات المجتمع لمواجهة البلطجة لما لها من أبعاد اجتماعية ونفسية وأمنية بالإضافة إلى أن الحكومة وللأسف الشديد لم تتخذ موقفا حاسما يمنع انتشارها ‬بل على العكس ساهمت فى جعلها نهجاً‮ ‬اجتماعياً‮ وسلوكا اجتماعيا منظما بدلا من إيجاد عقاب رادع وفوري للقضاء عليها.

وطالب بضرورة الإسراع في إصلاح مؤسسات الأحداث والملاجئ وتحويلها الى مؤسسات تربوية لا عقابية وتوفير دعم لها وأن يقوم المركز القومي للبحوث الاجتماعية بعمل بحوث على الميادين لدراسة هوية الاشخاص المتواجدين في الميادين بجانب الثوار ودوافعهم...

واتفق معه د.عماد عبد المقصود أستاذ علم اجتماع وقال إن العوامل النفسية والاجتماعية قد تدفع بالإنسان إلى الاتجاه للعنف انتقاما من المجتمع خاصة وان غالبية الشعب يشعر بالظلم والقهر والعجز وانعدام العدالة الاجتماعية وقلة فرص العمل وبالتالي الخروج على القانون ومن هنا نحن بحاجة إلى تكاتف شعبي وتكاتف حكومي حتى نضع حدا لهذا الانفلات الاخلاقي والأمني..

مشيرا إلى أن سلوك البلطجة عندما يصدر من النساء يعني الكثير والكثير في المجتمع ويؤكد الانهيار السلوكي والاخلاقي والقيمي في المنظومة... مشيرا إلى أنه التقى كثيرات من هؤلاء النساء واكتشف أن معظمهن ينتهجن البلطجة كنوع من أنواع الحماية للنفس، وأن هناك أخريات اتخذوا منها مهنة أكثر منها ظروفا اجتماعية، ويعملون مع عصابات ومع سياسيين فيفعلون ما يؤمرون به.

وأوضح أن قدرة الحكومة المصرية وأجهزتها التنفيذية على قيادة المجتمع "ضعيفة" لذلك عليهم الإسراع بطرح الموضوع على مجلس الشعب والاستماع لأهل الخبرة في شتى المجالات لإيجاد حلول علمية وعملية لهذه الظاهرة.

Leave a Reply