يولد الكاتب.. أم يصنع؟

الكتابة المسرحية ليست بالأمر اليسير مثلما يظن البعض أنه قادر على رسم شخصيات يثرثرون ويلعبون تحت الإضاءة وهم لا يعلمون أن ذلك سيسبب لهم العناء والألم جراء إحساسهم بالفشل من أول ليلة عرض

إن المتخيلة كما أسماها الفارابي، أو لوح النقش عند فرويد، أو الحافظة عند ابن رشد، أو الإطار المرجعي لدى أساتذة علم النفس، وعاء للتاريخ أو التراث، والذي تنضح بمقتضاه إبداعاتنا وأعمالنا، ترتكز على سني العمر الأولى، وللإبداع آلياته ومداركه وأهمها إثراء المتخيلة أو لوح النقش.
إن لحكايات جداتنا بالغ الأثر فى تنمية المتخيلة، أو الإطار المرجعي، فتنمية الخيال هي الطريق الأوسع في صنع مبدعين، فالإبداع لا يتأتى من منطقة المتخيلة ـ والتي هي بلا شك ليست الذاكرة - والتي لم نعد نهتم بها كمخزن للتاريخ شديد الأهمية في صناعة الإبداع والمبدعين، وقد فطر العربي بوجه خاص على خيال ثري، لأننا نتاج بيئة لها خصوصيتها، كاتساع الصحراء وصفاء السماء والبحار المحيطة، وهي ما تساعد على التأمل وانطلاق الخيال لعدم محدودية الرؤية، بالإضافة إلى الحكايات الشعبية والملاحم والسير، ولذلك برع أجدادنا في الشعر وفى حكايات السرد، والذي أضحى في أعلى مدارج النظريات الحديثة أمثال جون بولان ومارتن والاس واردينكو سوفيشتي وغيرهم من منظري ما بعد الحداثة في الإبداع السردي.
أين نحن من هذا الإرث في زمن تطغى فيه سرعة الإيقاع ونوازع الرفاهية أو زخم العمل، فإذا كان الرجل هو ابن ست سنوات كما يقال فإن لتكوينه فى مراحل طفولته أهمية كبرى في صياغة عالمه الداخلي واتساع مداركه وتشكيل وجدانه وتكوين إيقاعه الشخصي وتوقد قريحته، وبما أن فاقد الشيء لا يعطيه فمن أين يأتي الرجل بثقاب يقدح قريحته لينتج لنا إبداعا أدبيا وثقافيا أو علميا؟.
أما الإبداع المسرحي فله شأن آخر. فهل يولد الكاتب المسرحي أم يصنع؟ وكيف نحصل على جوهرة الإبداع تلك؟ بالدراسة أم بالتدريب والممارسة؟ أمر محير! حيث يميز "بوللوك" في كتابه بين الشاعر والكاتب المسرحى، فيقول: (إن الشعراء قد يولودون أو يصنعون تبعا للميدان الذي يشغلونه، أما الكتاب المسرحيون فلا بد أن يولدوا ثم يصنعون).
فالكتابة لحظة الإبداع طاقة روحية متدفقة، تُمنح لهذا ويُحرم منها ذاك، ولا تستجلب بالمرة، فالسليقة أو الموهبة لا بد أن تتواجد لدى الكاتب قبل أن يشرع في عملية كتابته المسرحية يقول "سومرست موم" عن الكاتب المسرحى: (لا بد أن يولد وفيه هذه البذرة..هذه الجرثومة..هذه الموهبة)، هذه الجرثومة التي وصفها موم تعني الموهبة التي أسماها أفلاطون بالإلهام، ولهذا كان رأيه هذا فيه شيء من الشطط، لأن علماء هذا الطرح قد أنزلوا العملية الإبداعية من السماء إلى الأرض إلى أغوار النفس البشرية، فيقول "جورج برنارد شو" ذلك الكاتب المسرحى العظيم: (إن الطبيعة.. يقصد دواخل النفس تقوم ولا بد بتسعة وتسعين من المئة من عملية الكتابة المسرحية)، وقد صرح بذلك أحد رجال المدرسة المعاصرة: (بأن الإنسان إنما يرغب في الاضطلاع بهذا العمل المرهق الشاق، المضني للذهن والجسم والذي تجشمه إياه الكتابة المسرحية، لأنه إنما ولد كاتبا مسرحيا).
ويجب أن يوضع مالك الجوهرة في مناخ عام يعمل على صقل تلك الموهبة وازدهارها وإلا ستظل كامنة إلى الأبد. هذا المناخ ينتج لنا كاتبا مسرحيا عظيما مثل يوجين أونيل أو من طراز تينسي وليامز أو تشيخوف.
وهذه الحياة النابضة من ثنيات النص المسرحي تنتج عن علاقة حميمية بين الكاتب وفكرته، علاقة مليئة بالحب والمودة والتعايش الصادق والإخلاص بين الكاتب وفكرته وتصوره من خلال رموز فنية. والحوار والفعل هما الرمزان اللذان يستعملهما الكاتب المسرحي في دائرة اختصاصه. والنص المسرحي هو إبداع فردي فإذا اتفق اثنان على كتابة قصة ما فإن كل منهما سينتجها بلونه ويصبغها بصبغته الخاصة يقول "أندرسون": (إن وظيفة الكاتب توضيح نظرته إلى العالم بسلسلة من الكتابات التصويرية التي تحمل المعاني إلى ما وراء الخطاب المباشر).
والكتاب المسرحيون أشبه بالموصل الكهربي إذ يوصلون الفكرة من خلال إبداعاتهم المتخيلة إلى الجمهور، يقول المر رايس: (العمل الفني هو مجرد محاولة الكاتب تصوير الحقيقة باستعمال الرموز وهو ينجح تماما بالدرجة التي يستطيع اختياره وترتيبة لرموزه أن يجعل المعنى الذي يقصده شيئا واضحا مفهوما).
ويقصد رايس أن سيطرة الكاتب على مادته هي التي تجعل منه فنانا وإذا بحثنا في قيمة أي عمل فني فإنه لا بد أن يتصف بالحيوية والفيض الحسي الذي يصل بدوره للفيض المعنوي، لكن يتأتى ذلك باتصال حي ومتدفق مع المتلقي لأن الفن الوحيد الذي يتمتع لخاصية (هنا والآن).
(إن جوهر الفن يكمن في قوة الاتصال بين قلب وقلب -أجل- ولكن بما أن أحدا لا يمكن أن يقول للطبيعة الإنسانية: "كوني وفقا لهذا المثال أو ذاك" أو أن يقول لتموجات الفهم الإنساني، إلى هذا الحد وليس أبعد منه) فكذلك لا يستطيع أحد أن يقول مثل تلك الأقوال للفن" رأي المر رايس.
إن الكتابة المسرحية ليست بالأمر اليسير مثلما يظن البعض أنه قادر على رسم شخصيات يثرثرون ويلعبون تحت ألوان زاهية من الإضاءة وهم لا يعلمون أن ذلك سيسبب لهم العناء والألم جراء إحساسهم بالفشل من أول ليلة عرض مسرحي. فإذا توصل المنظرون أن المبدعين يولدون أو يصنعون ما عدا الكاتب المسرحي حيث إنه يولد ولا يصنع، بمعنى أنه يولد وفيه تلك الجوهرة وتظل كامنة حتى يأتي أوان انطلاقها إذا ما أتيح لها ذلك، إلا أننا نرى أن الكاتب المسرحي يولد ثم يصنع فلا مناص من كليهما.



ملحة عبدالله

       2012-05-11 12:53 AM




تعليقات
       
  |  



0
عدد التعليقات :

ارسل تعليق



أوافق على شروط وأحكام الوطن.

');
docprint.document.write('
');
docprint.document.write('');
docprint.document.write(content_vlue);
docprint.document.write('

');
docprint.document.write('

');
docprint.document.write('

Leave a Reply