يتمسكون بالرقية، الشعوذة والطب البديل.. جزائريون يعتبرون العلاج النفسي خاص بالمجانين – الجزائر

"راني حاس روحي راح نطرطڤ"، "حاب نعيّط حتى يسمعوني الناس كامل"، "راني عيان ومقلق بلاما درت والو"، "حاب واحد يسمعني ويعاوني"، "حبيت نروح عند طبيب نفساني بصح نخاف الدار يسمعوا" .. عبارات وإن اختلفت إلا أن معناها واحد وهو عقدة التوجه إلى المختص النفسي رغم دعوات الأطباء النفسانيين في أكثر من مناسبة، لكن عقد "الجنون" تطارد الجزائريين وتدفعهم إلى فعل المستحيل للهروب من شبح "العيادات النفسانية".

"الجزائر" وفي جولتها الاستطلاعية في العاصمة، بحثت في أسباب تفشي عقدة الخوف من زيارة الطبيب النفسي وكيفية التخلص منها، لنكتشف أفكارا سلبية يحملها الكثير من الأفراد سواء نساء أو رجالا، كبارا أو صغارا عن العيادات المختصة في العلاج النفسي، والمشاكل التي يتخبط فيها الجزائريون في صمت ولسان حالهم يقول "زيارة المختص النفسي للمجانين فقط"، والعديد يتمسكون بأفكارهم التقليدية إزاء العلاج النفسي ويعتبرون زيارة هذه العيادات دليلا قاطعا على إصابة الشخص بمسّ شيطاني أو تعرضه لنوبة جنون، كما تعتبر زيارة الطبيب النفسي إن حدثت أحد أكثر الأمور سرية والتي تفضل العائلات على اختلاف طبقاتها المثقفة وغير المثقفة عدم خروجها من البيت مهما كان السبب وحتى لأقرب المقربين، كون ريارة العيادة النفسية تدخل صاحبها خانة "عالم المجانين".

"فضيحة" دخول العيادات النفسية في الجزائر

ليندة، 44 سنة، تقول: "مررت بظروف اجتماعية صعبة أدت إلى وصولي إلى حالات من الاكتئاب وقلة النوم والكلام وانعدام الشهية، حيث بقيت أكثر من أسبوع دون أكل ولم يزر معدتي شيء سوى الماء لكني لم أستطع اتخاذ قرار توجهي إلى طبيب نفسي خوفا من النظرة الاجتماعية التي قد تلاحقني ليس من الناس فحسب بل حتى من زوجي وأبنائي"، وأضافت ليندة تقول إنه على الرغم من أن كل أبنائها طلبة في الجامعة وزوجها أستاذ في الثانوية والأكيد أنه سيبدي تفهمه الكبير حيال توجهها إلى المختص النفساني، إلا أنها تتردد في اتخاذ القرار، موضحة أن الظروف التي تمر بها بسبب مشاكل البيت ونتيجة ضغوط تراكمت منذ سنوات تسبب فيها زوجها وأسرته، متمنية أن تمتلك الشجاعة يوما لتتغلب على ضعفها وتذهب إلى الطبيب النفسي من أجل مساعدتها على تخطي ما هي عليه، مشيرة إلى أنها تخشى نظرة أسرتها وأسرة زوجها لهذا القرار، وأنه من الصعب إخفاء التوجه إلى عيادات الطبيب النفسي لأن المحيطين بها شديدو التقرب منها وغالبا ما يعرفون كل تحركاتها. ومن جهتها سهام، صاحبة 46 سنة، ترى أن المجتمع الجزائري مازال يضع الكثير من العراقيل تجاه من يفكر في الذهاب إلى الطبيب النفسي، موضحة أننا جميعا في الحياة مرضى بشكل أو بآخر، فالكثير من العُقد في شخصياتنا تتشكل من المراحل الحياتية التي نعيشها والتي تحتاج إلى من يفككها، لكن الخوف من الناس يمنع -حسبها- الكثير من المضطربين نفسها من زيارة هذه العيادة التي يسميها الكثير عيادة "المهابل". وهذه "سعاد" في 31 من عمرها، تقول إن زيارة المختص النفساني تعد ظاهرة لا يمكن ذكرها أمام الناس وحتى الأهل، ولابد أن تدخل في خانة "سري للغاية"، مستشهدة بموقف أسرتها بعد توجه أخيها "بلقاسم" إلى إحدى العيادات النفسية بالرويبة حتى يخفف من المعاناة النفسية التي كان يعيشها، حيث رفضت الوالدة أن يعاود الاتصال بهذا المختص نهائيا، متحججة بأن المجتمع لا يرحم ويمكن أن يتهمه الناس بالجنون .. دليلة، أستاذة في الابتدائي، تؤكد أنها عاشت مرحلة جد صعبة عندما بلغت سن 48 سنة ولم تتزوج، ما أدخلها صراعا نفسيا كاد يوصلها للجنون، ولولا المختص النفساني الذي ساعدها في تخطي هذه الأزمة -تقول- لكنت في مصحة المجانين الآن، وتؤكد أن كل زياراتها لم يعلم بها أحد من أسرتها إلى حد اليوم حتى والدتها، متمنية أن يزيد وعي المجتمع بأهمية الطب النفسي خاصة مع تزايد الأمراض النفسية، حيث كلما زاد التطور والتجديد في المجتمع وكلما زادت المشاكل زادت معها "العُقد النفسية"، مؤكدة أن الحياة البسيطة التي كان يعيشها الآباء في القدم كانت تدفعهم إلى أن يعيشوا حالة من السلم النفسي، حتى إنه نادرا ما تجد شخصا لديه يعاني عقدة نفسية، أما الآن فالعكس، مشددة على ضرورة أن يكون هناك تركيز على ثقافة تقبل الطبيب النفسي في المجتمع.

10 بالمائة من السكان في حاجة لطبيب نفسي

ترى المختصة النفسانية فضيلة سعادات، أن أهداف الطب النفسي المعاصر هو مساعدة الشخص على بلوغ المستوى الذي يؤهله لأن يحيا حياة هادئة، وتحقيق المستوى الأفضل لسعادته ليتيح للمجتمع الذي يعيش فيه إمكانية الاستفادة من قدراته ومساهماته، ومن خلال هذا التعريف تتضح أمامنا الخسائر التي تلحق بالمجتمع عندما يتخلف أفراده عن العلاج النفسي. وتؤكد المتحدثة، أن المضطرب نفسيا هو في الواقع إنسان مشلول من الناحية الاجتماعية، لأنه يعيش حياته بعيدا عن السعادة من ناحية، ومن ناحية أخرى يفقد فعاليته الاجتماعية وحتى الأسرية، ولعلنا ندرك من خلال ما هذا حجم هذه الخسائر إذا ما عرفنا أن 10 بالمائة من السكان في حاجة لطبيب نفسي.

بحثا عن الراحة النفسية .. جزائريون يفضلون الرقاة والمشعوذين

هي ثقافة مرهونة بهيكلة جيدة وتقبّل أوسع من قِبل عديد من شرائح المجتمع على اختلافه، لأنه في الجزائر الراقي كالطبيب له مكانة كبيرة ولا يمكن لأي أحد أن يسأل عن قدراته العلمية والدينية التي تؤهله لعلاج المرضى، بل ترتبط هذه المكانة وقدرات الراقي بعدد المقبلين عليه لعلاج القلق والتوتر ويعتبرونها نتيجة "سحر ما" أو "معمول" يجب التخلص منه بالرقية، متجاهلين أن هذه حالات يمكن معالجتها طبيا عند طبيب مختص، في حين يوجد الكثير من النساء خاصة وبحثا عن الراحة النفسية يقصدن "المشعوذين" للتخلص من الإحباط والتوتر وما يخفيه المستقبل. وقد لمسنا أن العديد من الجزائريين لا يثقون في المعالج النفسي ويعتبرونه خاصا بالمجانين، مستبدلينه بزيارة الرقاة والطب التقليدي وأوكار المشعوذين بحثا عن الراحة النفسية، معتبرين حجرة الرقية عبارة عن "عيادات" لا يمكن التخلي عنها.

الكوارث الطبيعية دفعت الجزائريين لزيارة العيادات النفسية

أكدت لنا المختصة النفسانية، فضيلة سعدات، أن السنوات الأخيرة عرفت تزايد إقبال الجزائريين على المختصين النفسانيين خاصة بعد فيضانات باب الوادي 2001، وزلزال بومرداس 2003، وبعد أن مرّوا بعشرية مليئة بالدماء إلا أنه إقبال غير كاف كونه يقتصر على النساء فقط حسبها، وهو ما يتطلب تجندا كبيرا من قِبل المسؤولين على مستوى القطاع لغرس ثقافة زيارة مكتب المختص النفساني دون عقد أو خوف. وقالت المختصة، إن الطلب على المختصين في علم النفس بالجزائر متزايد في الفترة الأخيرة، وأن ما ينقص هو التكوين المستمر والجدّي للمختصين المتخرجين الجدد ليتمكنوا من وضع حد لهذه العقد والاضطرابات النفسية للعديد من المرضى، وأضافت أنه توجد ثقافة زيارة المختص النفسي كثيرا في المؤسسات التعليمية حيث يقصد العشرات من أولياء التلاميذ يوميا المختصين، ويعرضون مشاكل أبنائهموكذا مشاكلهم مع ظروف الحياة طلبا لإيجاد الحلول. وكشفت محدثتنا، أن "زيارة المختص النفساني المدرسي قطع أشواطا كبيرة في الجزائر العاصمة وفي كل الولايات".

عائلات تمنع أبناءها زيارة العيادات النفسية

زيارة العيادات النفسية وطلب المساعدة من المختص النفسي تعتبرها الكثير من العائلات فضيحة، وحتى الأسر المثقفة تفضل زيارة المختص النفسي خفية وتقصد العيادات البعيدة عن الحي والأقارب. "صباح" تعمل كمراقبة في الثانوية، تقول إنها لا تفهم الموقف الذي يتخذه البعض من عدم اللجوء إلى الطبيب النفسي في حالة وصولهم إلى مرحلة يحتاجون فيها إلى التوازن، مستشهدة بقصة صديقتها التي مرت بظروف غير مستقرة دفعتها لأن تكون ذات شخصية غير متوازنة ومضطربة وشديدة الغيرة من الناس، ففي لحظات تصاب بنوبات غضب شديدة بل ولا تعرف كيفية التحكم في سلوكياتها، حتى أصبحت تثير الخلافات بين صديقاتها بشكل غريب ويومي، وفي دقائق تتغير وتصبح هادئة، تساعد وتدعم بالمال، لتعود بعد فترة لتنقلب وتبدي عدوانيتها تجاه الأشياء والأشخاص وحتى الأهل، حتى دفعها هذا الاضطراب لأن تكون حبيسة غرفتها دون أن تتحدث مع أحد، ورغم أنها طلبت من أسرتها مساعدتها على إيجاد مختص نفساني -تقول صباح- حتى تستطيع التغلب عن هذا المشكل إلا أن أسرتها وعلى الأخص والدتها منعتها من التفكير في هذا الأمر مرة أخرى لأنه "فضيحة كبيرة" حسب الوالدة.

"صباح" تؤكد أنها الوحيدة التي قدمت لها يد المساعدة خفية على أسرتها، متمنية أن تتغير نظرة المجتمع للطب النفسي وأن يكون هناك وعي بأننا نعيش فترة من الطبيعي أن يزور فيها المرء المختص النفساني ليساعده على تخطي المشاكل اليومية وعلى تقييم سلوكاته وأفكاره.

بعد جولات ماراطونية بين الرقاة والمشعوذين وجدت الحل

من بين القصص التي شدت انتباهنا قصة "مريم"، 28 سنة، من ولاية المسيلة، وحسب ما روته لنا فإنها أصيبت بعد وفاة والدتها بنوبة قلق شديدة وخاصة بعد أن تزوج والدها .. تقول: "أصبحت أرى صورة أمي في كل زاوية وأتحدث إليها وكأنها حية، استشيروها وأقبلها أيضا، وكان الجميع يشك أني في حالة مس شيطاني أو أني أعاني من سحر، فرحت أزور في جولات ماراطونية الأطباء والرقاة وحتى "الزواية" رفقة والدي، إلى حين طلب الطبيب من أبي أخذي إلى أحد أصدقائه المختصين في علم النفس بالعاصمة، وهو ما كان، حتى إن كان الكثير اليوم يظنني مجنونة ويتهمني بـ"الهبال" كوني أقدمت على زيارة عيادة المختص النفساني، إلا أني لا أبالي المهم أني شفيت ..".

المعالجون النفسانيون يدعون إلى تأسيس جمعية إشهارية للاختصاص

يرى العديد من مختصي علم النفس العيادي والمدرسي والصناعي وحتى التربوي الذين اتصلنا بهم، أنه يجب أولا تحديد معنى "مشكل اللجوء إلى الطبيب النفسي" في الجزائر والتيقن من وجود تلك العقدة لأن عقليات الأفراد لا يمكن التأكد منها بالكلام والمرئيات دون وجود علاج ملموس، موضحين أنه يجب لفت الانتباه إلى الخلط الشائع بين الناس حول مهمة الطبيب النفسي والمعالج النفسي، وذلك يظهر جليا في ثقافتنا، فالمتابع للترجمة يلحظ ذلك الخلط وعدم التفريق بين المصطلحين، فإذا كان المثقفون لا يدركون الفرق بين المصطلحين أو أنهم يدركونه لكنهم لا يعبؤون به متهمين كل من يزور المختص النفساني بالمجنون، فهذا الخلط عند عامة الناس يكون متوقعا ومبررا، متسائلين هل فعلا عقدة اللجوء إلى الطبيب النفسي عند الجزائريين نفسها عند المختص، مشيرين إلى أن ملاحظة ومتابعة ما ينطق به الناس توحي بوجود مشكلة لابد من إجراء دراسة علمية لها وتحديدها وفي أي الفئات العمرية تفشت أكثر وما العوامل التي أدت إلى انتشارها، مؤكدين أن هذا الرفض مؤقت بسبب عدم وجود ثقافة بين الجزائريين لطلب المساعدة من الطبيب النفسي ومن المعالج النفسي، معتبرين هذا الإحجام يعود إلى عدد من المتغيرات من بينها الفكرة السائدة لدى عامة الناس على أن علم النفس هو دراسة الاضطرابات النفسية، مشيرين إلى أن هناك فكرة أخرى خاطئة أكبر من الأولى وهي أنه توجد العديد من العائلات في المجتمع الجزائري تخشى دخول أبنائها عيادة المختص النفسي كما لو أنه يخالف تعليمات الدين، وأوضحوا أن تجاوز مثل هذه المشاكل يحدث من خلال ترقية ثقافة المجتمع، داعين كل الأطراف المعنية إلى المساهمة في نشر الثقافة الصحيحة عن الدور الذي يمكن لعلم النفس أن يلعبه في التغلب على المشكلات التي يتعرض لها أفراد المجتمع بغض النظر عن مسبباتها، مضيفين أنه لابد من غرس الثقافة النفسية الصحيحة في عقول عامة الناس المتعلمين منهم وغير متعلمين، وهي خطوة باتت جد ضرورية لتجاوز هذه المعضلة، كما أنه من المهم أن يتجذر في وعي المسؤولين توجيه المجتمع إلى حيوية الدور الذي يمكن لعلم النفس أن يلعبه في القضاء على الآفات الاجتماعية، وهذا لا يمكن أن يحدث حسب المختصين إن لم يحسن النفسانيون تسويق علمهم من خلال الاتصال بالمجتمع المدني. ومن أجل هذا يدعوا المختصون، إلى ضرورة تأسيس جمعية لعلم النفس في الجزائر تساهم في التعريف بهذا الاختصاص، موضحين أنه لا يمكن إغفال الدور الذي يمكن للمختصين النفسانيين سواء كانوا معالجين أو أكاديميين أن يلعبوه من خلال حرصهم على تقديم صورة صحيحة عن هذا العلم والتي تتمثل في الممارسات التي يعملون بها تدريسا أو بحثا أو علاجا.

وبين الطب العلاجي والرقية الشرعية، والطب البديل والشعوذة، ضاعت فرص التوجه إلى طبيب نفسي وتلاشت بين الكثير من الأفراد، فالطبيب النفسي لا يقصده الجزائريون إلا عندما تسوء حالتهم وتنعدم أمامهم الحلول الأخرى.


Leave a Reply