نفسية السجين

يتصور الناس أن سلوك البشر إنما يتم طبقا لظروف طبيعية، لا فرق بين سلوك البشر العاديين وسلوك خريجى السجون، لا فرق بين سجان وسجين. لا تتحكم فيه دوافع أو ردود أفعال. وعلم نفس السلوك قائم لرد السلوك إلى دوافعه النفسية بعد تقييمها وتصنيفها. وقد يتخصص العلم ليصبح علم نفس الجريمة ليحلل دوافع الجريمة التى دفعت بالمجرمين إلى الدخول إلى السجون. ويأتى علم النفس السياسى بوجه أخص ليحلل سلوك المسجونين السياسيين بعد الإفراج عنهم وإلى أى حد الدوافع السياسية مازالت هى الموجهة للسلوك.

والسلوك ليس مجرد تنفيذ آلى لأهداف، إنما هو دوافع لتحقيق هذه الأهداف. السلوك الحقيقى فيما وراء السلوك وليس فى مظاهره. ويسهل إدراك ذلك فى ثقافة الظاهر والباطن، والذهاب إلى ما وراء اللفظ وما وراء الفعل للبحث عن المعنى والهدف، لذلك ظهر علم اللاشعور الذى تكمن فيه البواطن، وأن الإنسان أكثر ارتباطا باللاشعور من الشعور. وهو ما يضع قضية الحرية فى السلوك الإنسانى. هل الإنسان حر فى اختيار أفعاله أم أنه موجه بدوافع لاشعورية. إذا كان الأول فهو مسؤول. وإذا كان الثانى فهو غير مسؤول.

وكثيرا ما تكون نفسية السجين هى الخلفية الأساسية لسلوكه، قد تكون قائمة على الغضب. فقد فَقَدَ السجين عمله. وهو برىء لم يفعل شيئا. وقد يكون قائما على الانتقام، فهو يعرف من سجنه وظلمه. وماذا يستطيع المظلوم أن يفعل وهو سجين؟ لا يستطيع إلا أن يرفض، إذ يتصور العالم كله ظالما، خاليا من العدل. ولا يهم ماذا يرفض أو لماذا يرفض؟ ما يهم هو فعل الرفض الذى يعبر عن ذات السجين ويثبت وجوده.

يتصور العالم ثنائيا بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين الصواب والخطأ. ولا سبيل إلى المصالحة بينهما. بل لابد لأحد الطرفين أن يدمر الآخر. ولما كان السجين على صواب فإنه مسجون وقتيا، ولكنه ينتصر فى النهاية، فعليه الصبر، فالفرج قريب، له ولزملائه. لا مصالحة بين الإيمان والكفر، ولا بين الأقلية والأغلبية، ولا وساطة بينهما بل الانتقال من الضد إلى الضد، ومن النقيض إلى النقيض. والغلبة للأقوى كما هو الحال فى قوانين الصراع. البقاء للأصلح. لا بقاء إلا للأطراف فيتغلب طرف على الآخر، ويبقى الوسط كما هو فى كلتا الحالتين حتى ينحاز إلى الحق فينتصر أو إلى الباطل فينهزم. فلا بقاء إلا للأطراف، ينتقل من الظلام إلى النور أو من النور إلى الظلام، من الضد إلى الضد، من المظلوم إلى الظالم أو من الظالم إلى المظلوم، من السجين إلى السجان، أو من السجان إلى السجين. لذلك يصعب الحوار أو الإقناع لأنه لابد من النصر، ويدفع الحق الباطل فيزهقه فإذا هو زهوق «وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا».

ولا يتحرر الحق من الباطل إلا بالعنف، فالباطل لا يستعمل إلا العنف كى ينتصر على الحق، ولا يقابل العنف إلا بالعنف، ولا تواجه القوة إلا بالقوة. العنف تعبير عن الرغبة فى التحرر من نفسية السجين، وتأمين للنفس من الوقوع فى الأسر عبر الجسد. وإذا تحرر الجسد تحررت النفس أيضا. وقد يكون رد الفعل على العنف البادئ غير محسوب لأن العنف البادئ نفسه غير محسوب. ويستبدل العنف بالقانون الذى تحكمه القوة وقد استعملت معه القوة، وفى المقابل يستعمل هو الآخر القوة مع من استعملها معه. ويكثر فى ذلك ويظهر غلبته أمام الإعلام. فمن النسيان خلف القضبان يريد الظهور أمام الشاشات الفضية كى يفضح المستور.

والعلاج لنفسية السجين ليست بالعنف لأن مواجهة أفعاله السياسية لا تكون أيضا بالعنف. العنف ليس حلاً للفعل السياسى، فعلاً أو رد فعل لأن الفعل السياسى ليس فعلاً إجرامياً يعاقب عليه القانون، بل هو حق يكفله الدستور خاصة فى مجتمع لا ديمقراطى يقوم على الكبت والمنع والقهر وسد كل سبل المعارضة والتعبير الحر. ولو استعمل مع السجين العنف بادئا ذى بدء مما يضطره إلى استعمال العنف المضاد فإن دائرة العنف لا تتوقف إلا إذا أوقفها أحد الطرفين معتمدا على الأخلاق المسيحية «من لطمك على خدك الأيسر فأدر له الأيمن»، «من طلب منك معطفا فأعطه معطفين». والانتصار على العنف لا يكون بالعنف بل بمواجهة الطرفين لواقع واحد يسبب العنف ويشحذ سلاح الطرفين.

والخطورة إدخال سلاح الدين فى الصراع بين الأطراف. كل طرف يجد فى النص ما يؤيده، إن عنفا بعنف وإن سلاما بسلام. يعطى الدين الشرعية للطرفين بالرغم من تناقضهما. والكل إلى رسول الله منتسب. وخطورة سلاح الدين أنه سلاح نقلى لا يمكن مناقشته بسلاح عقلى، ويظل الأمر ضربا للنصوص ببعضها البعض. ويتحول البرهان إلى جدل، والمنطق إلى سجال. وفى كلتا الحالتين تطبيق للشريعة «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون» أو «الظَّالِمُون» أو«الْفَاسِقُون».

المطلوب للسجين إعادة تأهيل حتى تتغير نفسيته من مظلوم مقهور إلى مواطن صالح، لا يعيش وحده فى عزلة كما كان فى سجنه بل يعيش فى مجتمع سوى، يأخذ ويعطى، يحاور ويناقش، يقنع ويقتنع، فتنقشع عنه نفسية السجين إلى نفسية المواطن، ويبدأ النقد الذاتى لنفسه ولجماعته قبل نقد الآخرين، ويصبح السجن جزءاً من تجربته التاريخية، من ماضيه القريب. يبنى عليه حاضره، وينصح غيره، ويعى أنه مكان غير طبيعى للوجود الإنسانى. يضر أكثر مما ينفع، يخرق حقوقه الإنسانية كمواطن، ومع ذلك هو جزء من القانون المدنى، قانون العقوبات، وهو أيضا جزء من الشريعة الإسلامية وهى العقوبات. ووجوده فى المجتمع قائم على قانون التكامل، والتكاتف، والتعاون. وهو ما قرره علماء الاجتماع، الفارابى وابن خلدون، أن الإنسان مفطور على التعاون. ويقر آخرون مثل روسو أن الإنسان خيّر بطبعه لا يحتاج إلى قانون مدنى أو إلى قانون عقوبات «صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً»، «فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه».

هذه ليست مثالية تفترض أن الإنسان خيّر بطبعه وأن المجتمع هو الشرير. هو سبب الآثام والسجون والمعتقلات والعقوبات التى تصل إلى حد الإعدام، فالدم واحد سواء فى عروق السجان أو فى عروق السجين. والنفس واحدة سواء لدى الظالم أو المظلوم، ومن قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا. هذه نظرية واحدة للبشر جميعا، ظالما أو مظلوما. كل القتلى من الشرطة والجيش أو المعارضين شهداء عند الله لأنهم كانوا يؤدون الواجب بصرف النظر عن الخلاف السياسى. هذه فتنة مثل الفتنة الكبرى الأولى بين علىّ ومعاوية والحسين ويزيد، ليس القاتل والمقتول فى النار بل حكم وأخطأ. وخيرهم من انعزل وترك الطرفين مثل الحسن أخ الحسين، لأنه لم يستطع الحكم أى الفريقين على خطأ. والخلاف السياسى أمر ظنى فى النهاية لا يستوجب القتل، فالسلطة أقل من هذا بكثير. السلطة سلطة العالم وليست سلطة السلطان.

Leave a Reply