من القهر والهدر إلى الإيجاب

هناك المئات من المبدعين لا يضيرهم ألا يكتب عنهم أحد على صفحات الصحف؛ لأنهم لا يعملون من أجل مكانة اجتماعية أو حظوة زائلة. فأوضح ما تجده عند المبدعين هو الكفاءة المهنية العالية

الدكتور مصطفى حجازي عالم نفس لبناني وصاحب مشروع "يطمح إلى توظيف علم النفس في خدمة قضايا التنمية الإنسانية"؛ وقد بدأ مشروعه بدراسة عنوانها: "التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور"، وقد أطلق صيحة تحذير في مقدمة هذا الكتاب من إغفال دارسي التخلف وعلماء التنمية، ومن وراء ذلك إغفال القادة السياسيين لمفهوم أن التخلف يعاش على المستوى الإنساني كنمط وجود مميز، له دينامياته النفسية والعقلية والعلائقية النوعية، وحقيقة أن الإنسان المتخلف منذ أن ينشأ تبعاً لبنية اجتماعية معينة، "يصبح قوة فاعلة ومؤثرة فيها، فهو يعزز هذه البنية ويدعم استقرارها، بمقاومة تغييرها (لا حظ مقاومة التغيير)، نظراً لارتباطها ببنيته النفسية!" ومكمن الحذر هو "في الانطلاق في مشاريع تنموية طنانة مغفلة اعتماد إنسان هذه المجتمعات عنصراً أساسياً ومحورياً في أي خطة تنموية"؛ وقد استعرض في الكتاب الملامح النفسية للوجود المتخلف، والأساليب الدفاعية التي يلجأ إليها المتخلف من انكفاء على الذات والتماهي بالمتسلط والسيطرة الخرافية على المصير إلى العنف، وختم كتابه بفصل خاص عن وضعية المرأة. واستتبع الدكتور حجازي في دراسته الثانية ما اعتبره أوسع مدى من القهر، بل إن القهر نفسه يتحول إلى إحدى حالات الهدر؛ وذلك في كتاب "الإنسان المهدور: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية"؛ ويذكر ألواناً متعددة من الهدر: الهدر العام ويدخل ضمنه حالات الطغيان والاستبداد وحكم المخابرات والعصبيات والأصوليات المتطرفة، ويأتي نهب القلة للثروات والخيرات ودفع الغالبية إلى "ما دون خط البشر"، مما يؤدي إلى "هدر الجسد وحرمته وحدوده، وبالتالي استباحته مادياً ومعنوياً، حيث يصل التدهور إلى حد العيش على مستوى الآلة البيولوجية المحضة، ويكون الإنسان سعيداً أو يعتبر ذاته محظوظاً، إذا توفر له ما يقيم الأود، وما يضمن السلامة في حدودها الدنيا.. إنها حالة الانكسار الكياني، حيث يصل الهوان بالكيان إلى مستوى الشيء الذي يمكن ممارسة أي شيء عليه.. إنه الشعور "بانعدام القيمة المتعلم" (بفتح اللام)؛ هذا بالإضافة إلى هدر الطاقات وهدر الوعي وهدر الفكر، وهكذا يتوالد الهدر ويجر بعضه بعضاً.
ما دفعني إلى العرض السريع لبعض مؤلفات الدكتور مصطفى حجازي هو قراءتي مؤخراً خبر طبع كتابه الجديد الذي يبدو أنه متمم لمشروعه في تنمية الإنسان؛ عنوانه "إطلاق طاقات الحياة: قراءات في علم النفس الإيجابي"، فقلت لعله توسع وإضافة وشرح لآخر فصل في كتابه عن الهدر الذي عنونه "علم النفس الإيجابي وبناء الاقتدار في مجابهة الهدر" ، الذي أكد فيه تلازم الاقتدار الفردي مع الكفاءة المؤسسية؛ ضامناً النمو والحصانة المجتمعية، وأن قوى النماء ما زالت حية حاضرة، وما زالت تتكاثر رغم كل محاولات القمقمة. تذكرت هذه المعاني وأنا أستعرض سيرة وإنجازات زميل وأخ عزيز أمضى أربع سنوات في عمادة كلية الطب بجامعة أم القرى هو الدكتور عبدالعزيز الخوتاني. وما حديثي هنا حديث متزلف ولا حديث طالب حاجة أو مكانة، هكذا يفكر للأسف ثلة من المقهورين المهدوري الذات والكيان، ولا ألومهم على هذا، كما أني أعلم كما يعلم القارئ الكريم تماماً أن هناك العشرات، بل المئات من أمثال الدكتور عبدالعزيز الذين لا يضيرهم ولا يقلل من مكانتهم ألا يكتب عنهم أحد على صفحات الصحف؛ لسبب بسيط هو أن هؤلاء لا يعملون ولا يبدعون من أجل مكانة اجتماعية أو حظوة زائلة. إن أوضح ما تجده عند طبقة المبدعين هؤلاء هو الكفاءة المهنية العالية، إنها قاعدة معرفية مهنية متينة، فيها تدريب مستمر، ووضوح رؤية، ومرونة في التوجه والأهداف، وعزم راسخ في البناء والتطبيق يصل إلى تبني "ثقافة الإنجاز". أذكر عن الدكتور عبدالعزيز الخوتاني ولعه بكتب الإدارة والتطوير الإداري، وانخراطه في عدد من الدورات داخل وخارج البلاد عن الإدارة والتغيير حتى قبل أن يصير عميداً، ولا يمضي أسبوع أو شهر ونحن في محادثاتنا إلا وينبهني إلى عدة معان وخطط إدارية وتربوية في عدد من الكتب التي قرأها. ولا ينتمي الدكتور عبدالعزيز إلى فئة الأطباء الذي تحولوا إلى الإدارة كرهاً وبعداً عن الممارسة الطبية، فهو استشاري في تخصص دقيق نادر هو العناية المركزة للأطفال حديثي الولادة، وقد شهد له أساتذته الكنديون الذين تخصص عندهم، إذ كنا معا في جامعة بريتش كولومبيا الكندية في مدينة فانكوفر، شهدوا له بالكفاءة والمهارة العالية في أعمال هذا التخصص، فهو محب لتخصصه، بارع متقن فيه، وهو كذلك ليس من فئة الأطباء الذين لاحظ لهم من الانتساب إلى الجامعات إلا الاسم وإنما وجهتهم وقبلتهم إلى القطاع الخاص (وبالمناسبة لست من دعاة الحرب على العمل الخاص لأطباء القطاع الحكومي وإنما من المشجعين له ولكن بتقنين وضوابط تمنع جشع البعض وغررهم بمرضاهم). إنه من فئة المبدعين الذين "تحرروا ذاتياً" وأطلقوا العنان للطاقات الحية الأصيلة عندهم، وحركوا آلية النماء ذاتياً ووطنياً، وكان سبيلهم إلى ذلك هو الوعي الذى هو أساس امتلاك الذات. الوعي الذي يقرر أن الهدر "ليس قدراً مفروضاً، بل لا بد من التحرك للعبور من واقعه إلى بناء الاقتدار الإنساني على جميع الصعد". ومن أكثر ما تميز به الدكتور عبدالعزيز، وكذلك جميع المبدعين أصحاب الإنجازات، هو الذكاء الاجتماعي المتمثل في استيعاب الآخرين وتفهم حالاتهم الوجدانية ومواقفهم وحاجاتهم، وهذا عامل نجاح مهم، يخلق روحاً جماعية تمضي قدماً نحو الأهداف والإنجازات في بيئة محفزة مشجعة فيها احترام وتقدير، إذ لم أشهد عميداً يحبه طلبته كما شهدت مع الدكتور عبدالعزيز، يجالسهم ويستمع لهم ويحقق رغباتهم وتطلعاتهم. والحق أن هذا واجب عليه، لكن درجة تمثله بهذا الواجب وسعيه إلى تطبيقه هي التي تلفت النظر وتدعو إلى الإعجاب، أضف إلى ذلك سعيه الحثيث الجاد لكل ما فيه راحة ومصلحة زملائه أعضاء هيئة التدريس، ولدي أمثلة عديدة لا يتسع المقام لذكرها عن عفة عالية لصاحبي هذا، وحصانة قيمية خلقية لا مجال فيها للواسطات والعصبيات. ولا يتسع المقام أيضاً لذكر الإنجازات، وإنما أقوى وأبلغ لغة في الحديث عن الإنجازات أن تتحدث هي عن نفسها لكل مشاهد مراقب، وإنما كان هدفي هو عرض هذه الصفات وهذه الأفكار التي تمكننا بأمر الله من التحرر من هوية الفشل وما فيها من ارتهانات، وبناء هوية نجاح تتمثل في وجود مليء ذي معنى يتصف بالتمكن وحسن الحال؛ كما يذكر الدكتور مصطفى حجازي؛ الذي أختم بقوله:" لا مكان في عالمنا المعاصر إلا للأقوياء الذين يعملون على بناء اقتدارهم الذاتي واقتدار جماعاتهم؛ فإما التحرر من الهدر، وإما الضياع والدخول في فئة الناس المستغنى عنهم، والمجتمعات المستغنى عنها".



هاني المعلم

       2012-04-09 2:05 AM




تعليقات
       
  |  



0
عدد التعليقات :

ارسل تعليق



أوافق على شروط وأحكام الوطن.

');
docprint.document.write('
');
docprint.document.write('');
docprint.document.write(content_vlue);
docprint.document.write('

');
docprint.document.write('

');
docprint.document.write('

Leave a Reply