مليونية اكتوبر وسيكولوجية الجماهير !!!

(كما ان الجماعة ليست مجرد جمع عدد افرادها فكذلك النفسية الكلية لجماعة ما  ليست حصيلة مجموع النفسيات الفردية  لأعضائها )

                                                                                                       ماندرو

 

 

 

منذ سنوات طويلة وظاهرة الحشود الجماهيرية  تثير دهشتي وقلقي في آن واحد  لا سيما بعد ان خبرت بذاتي تجربة الانخراط  في الجموع الحاشدة بمختلف مستوياتها وأنواعها وإحجامها؛ بسيطة ومتوسطة وكبيره ، مدنية اجتماعية مطلبية , سياسية ثورية سلمية ، مباريات رياضية   ومسيرات  مهرجانات مظاهرات  اعتصامات , مواكب تشييع  ومآتم وحدادات ...الخ  ورغم ان الاستاذة القديرة فتحية منقوش قد علمتني مادة علم النفس الاجتماعي في سنة ثانية جامعة مع الاستاذ الفاضل علي بامنصور استاذ علم النفس الشهير في جامعة عدن منذ تأسيس القسم اطال الله عمريهما ومتعهما بالصحة والعافية ,اقول رغم ذلك ظلت ظاهرة الجماعة والمجتمع والتجمع والحشد والجمهور بكل تجلياتها وصورها الشديدة التركيب والتعقيد تثير حيرتي  وتدفعني الى البحث عن المزيد من الكتب والدراسات المتصلة بالموضوع  بهدف الحصول على ما يشبع جوع المعرفة ويروي الاسئلة المتعطشة للفهم والاجابات الممكنة , ومن حينذاك  وأنا اجمع كل ما اصادفه من نصوص ومراجع حديثة في علم النفس بمختلف مجالاته الكثيرة وعلم النفس الاجتماعي  خاصة  وفي سياق بحثي المستمر وقع بيدي كتاب عالم النفس الفرنسي الشهير غوستاف لوبون 1841 الى 1931 م  , سيكولوجية الجماهير 1895 م, ترجمة هاشم صالح وذلك منذ ثمان سنوات تقريبا  وهو اول  كتاب حديث  في علم نفس الجماهير فضلا عن كون مؤلفه لوبون يعد مؤسس هذا النسق العلمي الحديث الذي ازدهر في القرن العشرين عصر الجماهير والحشود الشعبية الكبيرة .

 

 

وقد كان هذا الكتاب بالنسبة لي اشبه بنجدة من السماء فيما كنت ابحث عنه لاسيما مع البروز الكبير لحركة المقاومة الشعبية الجنوبية السلمية وميلاد الحراك الجنوبي وأتذكر انني عكفت على قراءته  ليلة كاملة حتى منتصف نهار اليوم التالي  وكان لتلك القراءة ان فتحت لدي نافذة لكي اطل  على  هذه الظاهرة الاجتماعية التاريخية , اقصد ظاهرة الجماهير  والحشود الشعبية ؛ نشوءها دنامياتها عناصرها علاقاتها تفاعلاتها خصائصها  او بكلمة بنيتها  وثيماتها الملغزة , مع ما اتيح لي  - مثل ملايين الناس في مجتمعنا- من فرص المشاركة الفعلية في الاندماج بالحشود الشعبية الجماهيرية منذ انطلاق ثورة المقاومة الجنوبية السلمية المتصاعدة  في 7/7/ 2007م  وما زودتني هذه المشاركة العفوية والواعية  - فضلا عن الكثير من المناقشات المستمرة التي طالما خضتها مع بعض الزملاء والزميلات - من تغذية راجعة واستبصارات  محتملة في مقاربة الاسئلة الملحة  من قبيل :

 

 ما الجمهور  الحشد ماهي خصائصه ما الذي يدفع الناس الى التجمهر ما الفرق بين انواع التجمهر  ما أثر الانخراط في الحشد على الافراد الذين يشكلونه ؟  هل الجمهور هو مجموع اعضاءه ؟ بماذا يشعر الافراد المنخريطن في الحشد ؟  وما هي سيكولوجية الجماهير ؟؟؟ هذا هو السؤال الذي حاول جوستاف لوبون تفسيره من منظور منهج  التحليل النفسي  وقد وجدت وانا اعيش التجربة بنفسي ان هذا العالم الفرنسي قد  استطاع على نحو مثير للإعجاب ان يسلط الضوء الكاشف على زوايا هذه الظاهرة التي ظلت معتمة ولا زلت تحاط بالكثير من الغموض والتشوش وسوء الفهم .

 

 

  فماذا قال عالم النفس الفرنسي في الجماهير وسيكولوجيتها وكيف نستفيد منه في ثورتنا الشعبية السلمية ؟  اليكم مقتطفات سريعة  مما جاء في كتاب سيكولوجية الجماهير الشهير  اذ جاء فيه مايلي :

 

 نضال الجماهير هو القوة الوحيدة التي لا يستطيع ان يهددها او يوقفها  اي شيء  وهي القوة الوحيدة التي تتزايد هيبتها و جاذبيتها وسلطتها  باستمرار  اذ لم تعد مصائر الشعوب والأمم  تحسم في مجالس السياسة  والحكام و انما في روح الجماهير وحشودها  المتضامنة .

 

 

علم النفس الجماعي يفيدنا ويضيء عقولنا عندما يشرح لنا جذور تصرفاتنا العمياء و الاسباب التي تدفعنا للانخراط في جمهور ما و التحمس اشد الحماس لفعل أي شيء بدون ارادة واعية_ بل وهنا الخطر_ قد نقدم على افعال اشياء مضرة   دون نعي ما فعلناه الا بعد ان نستفيق من سحر الانفعالات الجياشة والعواطف المتقدة الحماس التي تجرفنا جرف بقوة خفية .

 

 

الجماهير لا عقلانية  بطبيعتها ، فالجماهير التي تصفق بحماسة شديدة لمطربها المفضل او لفريق كرة القدم الذي تؤيده تعيش لحظة اشتعال المشاعر والعواطف الجامحة . والجماهير المهتاجة التي تهجم على شخص حتى تفنيه  دون ان تتأكد من انه هو المذنب تحركها الغرائز اللاعقلانية

ان الجماهير غير ميالة كثيراً للتأمل  والتفكير الطويل  وغير مؤهلة للمحاكمة العقلية  المنطقية ولكنها مؤهلة جداً للانخراط في الممارسة والعمل والفعل والحركة  والتنظيم  بما يجعل منها قوة ضخمة ليس بمقدور احد ايقافها وكبح جماحها .

 

هناك نمطين من التفيكر فقط : الاول يستخدم الفكرة المفهومة المجردة  و الثاني يستخدم نمط التفكير بالصور الحسية  الأول يعتمد على قوانين العقل و البرهان والمحاجة المنطقية والثاني يعتمد على قوانين الذاكرة والحماس و التأثير  .. واكبر خطأ يرتكبه القائد السياسي هو ان يحاول اقناع الجماهير بالوسائل العقلانية الموجهة الى اذهان الافراد المعزولين.

 

الكلمات ليس لها الا معان متحركة و مؤقتة و متغيرة من عصر الى عصر و من شعب الى شعب و عندما نريد ان نؤثر على الجمهور بواسطتها فانه ينبغي علينا اولا ان نعرف ما هو معناها بالنسبة له في لحظة معينة وليس معناها في الماضي او معناها بالنسبة لافراد ذوي تكوين عقلي مختلف فالكلمات تعيش كالافكار في سياقات اجتماعية وثقافية حية ومباشرة.

 

هناك اسباب عديدة تتحكم بظهور الصفات الخاصة بالجماهير و أولها هو ان الفرد المنضوي في الجمهور يكتسب في الحشد  شعورا عارما بالقوة , و هذا ما يجعله ينفذ اعمال وأفعال خارقة للعادة لا يستطيع القيام بها حينما يكون منفردا اذ تجده  ينصاع لها بحماسة دون مبالاة بالمخاطر والنتائج الخطرة وهذا ناجم من ان الجمهور مُغفل بطبيعته معه تختفي المسؤولية  , اقصد مسؤولية الفرد عن افعاله   . و بما ان الحس بالمسؤولية هو الذي يردع الافراد فانه يختفي في مثل هذه الحالة كليا.

 

وعلى هذا النحو اشار لوبون الى بروز جملة من الخصائص الاساسية للفرد المنخرط في الجمهور منها  : تلاشي الشخصية الواعية , هيمنة الشخصية اللاواعية ,  هيمنة مزاج عام  من المشاعر المتأججة  غضب فرح حزن نشوة النصر .  تدمر كسر هياج عنف مقاومة تصدي تضحية فزع ... الخ كل ذلك ينتشر عن طريق العدوى للعواطف و الافكار , والميل لتحويل الافكار المحرضة  الى فعل و ممارسة مباشرة , و هكذا لا يعود الفرد هو نفسه في الحشد و انما يصبح انسان آخر تماما اذ تختفي خصائص الافراد في لحشد الضخم وتختفي الفروق بينهم ,هنا لا فرق بين المتعلم وغير المتعلم بين الدكتور والطالب ....الخ  . 

 

ان الجمهور يمكنه بسهولة ان يصبح  جلادا اذا افتقدت القيادة القادرة على التنظيم  و لكن يمكنه بنفس السهولة ان يصبح ضحية وشهيداً فمن اعماقه سالت جداول الدم الغزيرة الضرورية لانتصار اي قضية او مبدأ جديد.

 

الجماهير سريعة التحول والتفاعل مع المحرضات بالكلمات والرموز والشعارات ,فضلا عن كونها على بساطة عواطفها متطرفة في اتخاذ المواقف من الافراد الذين لسبب او اخر يتم تصنيفهم من انصار الى خونة وربما يتم ذلك عن طريق الأخطاء او الفاعلين الخبثاء .

 

 

تطلق كلمة جمهور ليس على أي تجمع بشري في أي مكان مثل الناس الذين يتواجدون في الشوارع في المدن المزدحمة بل تعني مجموعة كبيرة من الناس لديهم نفس المشاعر وجمعتهم دوافع مشتركة , وحدة المشاعر والعواطف والانفعالات شرط اساسي لمعنى الحشد القادر على البقاء مدة زمنية محددة .

 

 

ومما اكده لوبون بان الجماهير اذا ما تركت بدون قيادة موحدة ومنظمة ومرنة وكفؤة ودينامية فانها تصبح خطرة وسهلت الاختراق والتوجيه

وقال ايضا ان الجمهور المحتشد في اوج حماسته يكون في غاية الحساسية تجاه الخارج المستهدف بغضبه وحينما يتعرض الى استفزازما يصعب التحكم بردود افعاله بل قد تكون ردود افعاله خطرة على وجوده هو بالذات في حالة افتقاده الى القيادة الحريصة المتمرسة الحليمة الواعية المدركة لكل تلك المخاطر حتى  تجعلها تحت السيطرة .

 

 

ثمة اشياء كثيرة لا يتسع المقام لذكرها هنا في هذه العجالة السريعة  في الختام اقول لقد شهدت بنفسي تجربة الجمهور الثوري ولاحظت ما كان يحدث لي حينما اندمج في قلب الحشد , لقد انتابتني مشاعر لا سبيل الى وصفها هنا ومما اذكره اني في مهرجان التصالح والتسامح والتضامن في ساحة الهاشمي في الشيخ عثمان احسست بالدموع تنهمر من عيني والعبرات تخنقني وشهدت ذلك عند الكثيرين مما كانوا بجانبي من المتظاهرين ومثل هذا الشعور عاود الظهور في ذكرى ثورة اكتوبر في الحبيلين بعد ارتكاب سلطات الاحتلال جريمتها البشعة حينما اقدمت على اغتيال اربعة شهداء اليوم السابق للمهرجان , ذهبنا من عدن  وهناك في منصة الشهداء احسست بمشاعر الحرية والعزة والقوة والكرامة  حينما لاحظت ذلك الحشد المهيب الذي كان في غاية الغضب والحماسة والشعور بالقوة الى الحد انه لو طلب منه القيام باي شيء ضد المحتل لما تردد عن اقتحام المعسكرات باجساد عارية . ولعل الكثيرين من الاخوة والاخوات الذين شاركوا في ذلك اليوم المشهود يتذكرون ذلك .... وعيدكم سعيد  

Leave a Reply