مفهوم الهوس (بقلم الدكتور جورج شبلي)

الهوس في اللغة هو الوقوع في الحيرة والأضطراب، وهو في علم النفس هذيان أو ميل مرضي الى المبالغة والتضخيم ورواية مآثر بعيدة عن الواقع. حتى أنّ بعض السيكولوجيّين اعتبروا أنّ المصاب بالهوس به طرف من جنون وخفّة العقل. ويظهر الهوس في أكثر الأحيان على شكل عقدة من شخص أو اعتقاد بأنّ المهووس مضطهد من خصوم لا وجود لهم إلا في مخيّلته، ما يشكّل عذابا له من جرّاء الظنّ بأنّ هؤلاء يبتكرون الوسائل للأضرار به.

أمّا المتطرّفون في التحديد فرأوا أنّ المهووس ممسوس أي أنّ به مسّا من الشياطين استنادا الى العوارض التي تنتابه من حدّة وحميّة واندفاع غير مبرّر. ينسحب حال الهوس، استنادا الى ما تقدّم، على من يطلقون عندنا على أنفسهم زورا ألقابا فضفاضة، فينبهر بعض الناس بها وتحصل في أروقة أدمغتهم مجزرة الفهم . والأعراض لا حصر لها في هذا الصدد: كتشتّت الذهن وسطحيّة التفكير وعدم اكتمال الفكرة ومقاطعة الآخرين بمجرّد ورود فكرة جديدة في البال، أو الشعور بالعظمة المفرطة وتوهّم القوّة والغرور الزائد وارتفاع الصوت وسرعته غير المراقبة، أو سرعة الأستثارة والتوتّر والتهوّر واتّصاف ردّات الفعل بالغضب والعدوان والحساسيّة الفائقة، والوقوع في التناقض المزاجي في أغلب الأحيان.

وتعود هذه الأعراض الى أسباب نفسية أبرزها الفشل والأحباط وشدّة القلق العصابي، ما يعرّض المصاب بالهوس لاضطراب ونوبات قلق تنعكس تفككا في التفكير وتشوّها في الوعي وسيطرة لنمط من السلوك غريب عن الأستواء والمقبوليّة.

وبعد، أو ليس هذا التوصيف النوعي هو بالتحديد ما ينطبق على عيّنة معروفة من قياديّينا اللاّتقليديّين الذين يصف "ابقراط" أب الطب اليوناني حالهم بالمرض المقدّس؟ وصفة "المقدّس" هنا تتناول العقل قدس أقداس الأنسان ومركزيّة قيمته التي تميّزه عن سائر الكائناتة الحيّة. وإذا كان السلوك العقلي هو المعيار للوصول الى استنتاج علمي عمّا إذا كان صاحب هذا السلوك "طبيعيا"، فالزحمة على مداخل مشافي الأمراض العقليّة لن تكون طبيعية هي الأخرى .

ويكفينا في هذا المجال أن نستمع الى المؤتمرات الصحافيّة والأطلالات النمطيّة لرجالاتنا، لكي نتأكّد من هستيريّة التصرّف والأسراف في الأنفعال والعسر في المزاج، ما يقود الى الضياع على مستويي الأستماع الى الأسئلة والأجابة عنها، وسيطرة اللاّوعي الذي يبوح، عن قصد أو عن غير قصد بما يقضّ بال هؤلاء من وساوس على شكل أشخاص أو ظنون بالرصد والأضطهاد والأستقصاد.

يقودني هذا البحث الى مفهوم الدولة المنكوبة. فمصطلح المنطقة المنكوبة أو منطقة الكوارث، يطلق على المكان الذي أصيب بكارثة طبيعية كالزلازل أو الأعاصير، أو كارثة صناعية كالتسرّب الأشعاعي أو انفجار مفاعل نووي مثلا. كما يمكن تصنيف منطقة على أنّها منكوبة، إذا تعرّضت لحرب أو أعمال شغب.

إنّ علاج النكبة في هذه الأحوال ممكن، ويكفي أن نعاين اليوم برلين المهزومة والمدمّرة في الحرب الكونيّة الثانية، أو هيروشيما التي حوّلتها ىالقنبلة الذريّة الى هشيم لقطع الشك باليقين. أمّا النكبة المستعصية على كلّ علاج، فهي إصابة الدولة بمهووسين لا تنفع معهم اللّقاحات كونهم ضحايا تشوّهات دماغيّة يصعب تحديد مدى أضرارها. ومصيبة دولتنا المنكوبة أنّ هؤلاء زعماؤها .

Leave a Reply