مدارس علم النفاق/ 1

د.فوزي زايد السعود

في العصور الزاهرة كنّا نسمع عن علم الكلام، وعلم الفقه والنحو والقراءات، ثم قرأنا عن علوم أخرى مثل: علم النفس، وعلم الاجتماع، والسياسة، والحاسوب.. علوم لا حصر لها في مسيرة البشرية، ومن طبيعة العلم أن يتطوّر وينمو وتصبح له مدارس وقواعد وشُرّاح وشيوخ وتلاميذ.
وليس غريباً أن يتطور علم آخر، وصنْعةٌ أخرى تسمى «علم النفاق»، له رجاله ودُعاته وحُماته وآلياته، بل ربما مساقاته التي تُدرّس في الجامعات والمعاهد، وكان علماؤنا الأفاضل غالبا ما يحرّمون تعلّم السّحْر، ولا أدري هل يمكن أن نجد اليوم من يفتي بحرمة تعلّم علم النفاق للحذر منه ومن أصحابه، أم أن الأمر أصبح مألوفاً؟ قد يكون المطلوب أن نتعرّف على هذا العلْم من أجل أن لا نقع فيه، ولا يغيب عن بالنا منهج الصحابي حذيفة بن اليمان رضي الله عنه حينما قال: «كان أصحاب رسول الله يسألونه عن الخير، وكنت أسأله عن الشر؛ مخافة أن يدركني» (صحيح البخاري، 3606)، فالتعرّف وارد، لكن الممارسة من الكبائر.                                     
هناك مجموعة من النصوص تُؤَصّل لعلم النفاق منها حديث النبي عليه السلام: «آيةُ المنافقِ ثلاثٌ: إذا حدَّثَ كذبَ، وإذا وعَدَ أخلفَ، وإذا اؤتُمِنَ خان» (صحيح البخاري، 33) ويدخل في إطارها أنواع كثيرة: نفاق القول والفعل والخصومة الفاجرة. ومن أبرز مدارس النفاق تلك المدرسة التي تعتمد الصورة «الميديا»، فهي تركز على الفرد (زعيم، قائد، عالم، مفكر..) فتظهره للمشاهد بصورة الإنسانيّ والملتزم والمتفاني والسّاهر على مصلحة الرعية و.. قد تركّز الصورة على تعبّداته وخشوعه المصطنع، وولوجه أزقة الفقراء والمُهمَّشين، وسكان العشوائيات وزياراته دور الرعاية والأيتام أو «اللقطاء»، فيحمل هذا ويقبل ذاك، ويبتسم لهذه  ويناغش تلك.. صور وكأنها ناطقة لتوصيل رسائل معينة، وربما بعد وصول هذا الزعيم أو إلى بيته أو قصره يغسل نفسه سبع مرات إحداها بالتراب! حتى يتخلص مما علق به من «القرف» الذي مسّه من تقبيل هؤلاء «الوسخين»!        
وتتطور صور النفاق إلى التركيز أيضاً على بعض الهدايا والمواد العيْنية التي يقدّمها هذا الشخص أو القائد العظيم للطلاب أو المنكوبين، فيُقال هذا من ماله الخاص، وفي الحقيقة هي من الأموال التي تقدمها المؤسسات والمنظمات الخيرية والإغاثية.                         
ومن أشد صور النفاق إيلاماً للنفس وجُرْماً وتدليساً أن تُصْنع هالةٌ من التعبّد والتقديس، فيُسلَّط الضوء على الزعيم وهو يتوضّأ، أو يحمل مسبحة في يده، أو وهو يقبل كتاب الله تعالى ثم تَقَدّمه للصفوف في الصلاة، ولا مانع أن تظهر دموع عينيه، وأما صور الحج والعمرة فحدّث ولا حرج، تُنقل لحظة بلحظة، كيف لا والملايين تتابع، فما أجمل الطواف وتقبيل الحجر الأسود والتلبية، ويُذكر في هذا المجال أن أحد القادة وهو يقبّل الحجر الأسود قد ظهرت قلادة «سنسال» في عنقه، وما أظن أنها فضة، فقال أحدهم: «ما هذا؟ مستغرباً! فردّ آخر وقال: «هذا رقمه العسكري».   
إن النفاق في تصوّرنا الإسلامي وفي حياتنا الاجتماعية جدُّ خطير، «إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار» (النساء، 145)، «والله يشهد إن المنافقين لكاذبون» (المنافقون، 1)، ففيه تخريبٌ للضمائر والنفوس والحياة والأحياء، وهو مرض اجتماعي كنوعٍ من التزلّف أو التغطية على سلوك مشين، أو إخفاء جرم معين. ولا شك أنه بحاجة إلى علاج ناجع يبدأ من توعية الناس بهذه الظاهرة وصورها وأشكالها، وكشف أصحابها حتى لا يسوقون فِعَالهم على عامة الناس، فمن جاهدهم بيده ولسانه وقلبه فهو مؤمن.

Leave a Reply