محمد بن سعود الجذلاني

    حين كنتُ طالباً في كلية الشريعة في الرياض، كان ضمن المقررات الدراسية الاختيارية التي درسناها، مادة بمسمى (علم النفس)، وكانت عبارة عن مقدمة في علم النفس، لا أذكر مما درسته فيها شيئاً اليوم، إلا أنها كانت رتيبة جافة، ليس لها أي ارتباط بتخصص دارس الشريعة، يجعل الطالب يتفاعل مع المقرر، ويتفهم أهميته، ويستشعر حاجته إلى استيعابه، ولهذا كانت مجرد مادة مفروضة علينا، لا نلقي لها بالا.

الشريعة الإسلامية قررت أهمية سلامة الصحة النفسية للقاضي، وشددت على منعه من القضاء وهو يمر بأي اختلال أو اعتلال سلوكي. فهل نحن في نظام القضاء اليوم، وفي آلية اختيار القضاة، نولي أي اعتبار لهذه المسألة؟

وبعد خبرة في القضاء ثم المحاماة، أدركت كيف كان الخلل والقصور في عدم إعطاء هذا العلم ما يستحقه من أهمية ، والحرص على تحويله من مادة اختيارية ليس لها أي اعتبار، إلى مادة أساسية، تسهم في تكوين شخصية طالب الشريعة، أو القانون، الذي تتم تهيئته للعمل مستقبلاً في عدة مجالات لا يمكن الاستغناء عن الإلمام بمبادئ ونظريات علم النفس فيها.

فهذا الطالب سيكون غداً هو القاضي، والمستشار، والمحامي، والمحقق، والمعلم، والمحتسب، والداعية، وغير ذلك الكثير، وكل هذه المجالات لها ارتباط كبير بعلم النفس، ولا شك أن إلمام القائم بهذه الأعمال بما يحتاج إليه تخصصه من مبادئ علم النفس سيكون له أبلغ الأثر على جودة عمله.

أما عن العلاقة الوثيقة بين علم النفس والقضاء؛ فإنه يمكن استعراض ذلك من خلال عدة جوانب باختصار، وهي :

أولاً : تبدأ العلاقة الوطيدة بين القضاء وعلم النفس، في مرحلة اختيار القاضي بالدرجة الأولى، ثم المحقق لما له من ارتباط بالقضاء، وكونه يعتبر من أعضاء السلطة القضائية، فاختيار القاضي ما زال مستمراً إلى اليوم وفق طريقة تقليدية عقيمة لا تفي بالغرض، ولا يتحقق من خلالها التحري الواجب في معرفة مدى أهليته للعمل في هذا المنصب الشريف الشرعي المنيف، ذي الخطر وعظيم الأثر.

فلا يعدو اختيار القاضي أن يكون من خلال عدة معايير سطحية شكلية، لا تراعي الجوانب الأهم، التي من بينها مدى أهليته النفسية السلوكية للاضطلاع بأعباء هذه الوظيفة التي تتطلب قدراً كبيراً من الاتزان النفسي، والانضباط السلوكي.

فإذا كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح : " لا يقضين حكم ٌبين اثنين وهو غضبان " وعلّق على ذلك ابن دقيق العيد فيما نقله عنه ابن حجر "رحمهما الله " بقوله : " فيه النهي عن الحكم حالة الغضب، لما يحصل بسببه من التغير الذي يختل به النظر، فلا يحصل استيفاء الحكم على الوجه .

قال : وعداه الفقهاء بهذا المعنى إلى كل ما يحصل به تغير الفكر، كالجوع والعطش المفرطين، وغلبة النعاس، وسائر ما يتعلق به القلب تعلقا يشغله عن استيفاء النظر، وهو قياس مظنة على مظنة، وكأن الحكمة في الاقتصار على ذكر الغضب لاستيلائه على النفس وصعوبة مقاومته بخلاف غيره ".

إذاً فالشريعة الإسلامية قررت أهمية سلامة الصحة النفسية للقاضي، وشددت على منعه من القضاء وهو يمر بأي اختلال أو اعتلال سلوكي. فهل نحن في نظام القضاء اليوم، وفي آلية اختيار القضاة، نولي أي اعتبار لهذه المسألة؟

لماذا لا يخضع الشخص المراد ترشيحه للقضاء، لفحص ٍ دقيق يكشف عن أي اعتلال في سلوكه، أو اضطراب ٍفي صحته النفسية؟

هل كل القضاة الذين على رأس العمل اليوم صالحون تماماً من هذه الناحية؟

وهل يصلح أن يمارس القضاء أو التحقيق رجل يعاني من وسواس مثلاً ؟ أو يستولي عليه شك مرَضي يجعله يعامل الناس وينظر إليهم من خلال هذا الشك المرضي؟

ألا يمكن أن يكون لبعض الأحكام التعزيرية التي تصدر أحياناً وتلفت الانتباه بقسوتها والمبالغة فيها، أي ارتباط بالجوانب النفسية عند القاضي؟

ما مدى استجابة بعض القضاة لأدنى استفزاز ما يجعله ينقلب إلى خصومة وملاسنة وتهديد بأنواع العقوبات لبعض الخصوم الحاضرين دون أدنى مبرر؟

أليس هناك شكاوى كثيرة متكررة من الناس مما يمارسه بعض القضاة من سوء خلق وشراسة تعامل وغلظة في غير محلها، حتى إن بعض مراجعي المحاكم يتعرض لهذا العنف وهو ليس طرفاً في خصومة، بل قد يكون أتى للإدلاء بالشهادة، أو يراجع القاضي في معاملة إنهائية لا خصومة فيها؟

ما تفسير مثل هذه السلوكيات، وما ارتباطها بالجوانب النفسية عند الناس؟

ثانياً : هل يستحضر القاضي والمحقق في تعاملهما مع المتهمين بأنواع الجرائم، النواحي النفسية والسلوكية لهذا المتهم؟ وهل يستعان كثيراً بالطب النفسي لتحديد مدى أهلية الشخص، أو مدى ملاءمة العقوبة الموقعة عليه؟

بل إن بعض المتهمين بجرائم معينة حين يعرض على القضاء ويعاقب بالحكم الشرعي، قد يكون من الضروري الحكم أيضاً بإخضاعه لعلاج نفسي معين، ومراقبة سلوكه، والتحقق من مدى خطورته على أهله وأسرته والمجتمع، لما قد تكشف عنه بعض السلوكيات والجرائم من أبعاد خطيرة، تؤدي في حال أهملت إلى أضرار جسيمة.

وهنا ينبغي التنويه بأن ما قد يحصل أحياناً من الاعتماد على تقارير طبية من الطب النفسي يقدمها المتهمون، بأن ذلك يعتبر خطأ من الناحية القضائية، إذ الواجب أن يطلب القاضي من الطبيب أو المختص النفسي أو السلوكي أن يحضر في مجلس الحكم، ويدلي بشهادته مباشرة، ويناقشه القاضي عنها، حتى تتضح الصورة أكثر، وتتوثق الأحكام بشكل ٍأدق.

هذه عجالة عن موضوع قد يراه البعض ترفاً، بينما هو من الأهمية بمكان، أدركت ذلك الدول المتقدمة، ونحن أولى منها بذلك لما له من أصل في شريعتنا العادلة.

أرجو أن يكون لمقالي اليوم صدى، وأن يؤخذ هذا الموضوع بعين الاعتبار، من الجهات التنظيمية، وعند سنّ القوانين والتعليمات، وعند وضع خطط مناهج الكليات الشرعية والقانونية.

وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه..

Leave a Reply