في علم نفس الأدب

كانت تمر بالشاعر الفرزدق احوال يكون قلع ضرس عنده اهون من صياغة بيت شعر. وهذا يعني ان اسباب الشعر لا تكون حاضرة كل حين. بل ان حضور هذه الاسباب لا يؤدي بالضرورة الى كتابة الشعر او الى انبعاث النفس به. ودليلنا هنا من الفرزدق ايضا، حيث لم يقل شيئا في وفاة زوجته التي احبها، وتمثل بدلا من ذلك بقصيدة منافسه الاكبر «جرير» في رثاء زوجته.
وما ينطبق على الشعر ينطبق على «النثر» أو على الترسل بالمعاني بما يتميز به اسلوب عن اسلوب لدى المترسلين، ذلك ان توافر الافكار والدواعي النفسية، وهما الشرطان الموضوعيان للترسل، وتراكم التجارب والمعارف، كل ذلك وعلى عكس ما نتوقع قد يحول بين الكاتب وبين الشروع في الكتابة، الا ان يأتيه ما يكون سببا مباشرا، قد لا يخطر له على بال، لها..
ان اكبر قارئ في القرن العشرين، وهو الكاتب العربي الفذ عباس محمود العقاد، كان يحار أي موضوع يتناول فيما يكتب للصحف والمجلات، وكانت له «يوميات» جمعت في اربعة اجزاء، فضلا عن كتبه العديدة المجموعة من مقالاته. وكان رحمه الله يطلب من رؤساء تحرير المجلات والصحف احيانا، اقتراح الموضوع الذي سيكتب فيه. فلو كان توافر الافكار والمعارف وتوافر القدرة الادبية المشهود لها بالتميز سببين كافيين للكتابة لما لجأ العقاد الى من يقترح عليه موضوع مقالاته.
ثم ان التجربة الشخصية تجعلنا في مثل عين اليقين من استعصاء الكتابة احيانا، حتى لقد يمر يوم كامل في محاولتها دونما جدوى وهي حال لا تفسير لها شافيا، مع توافر الشروط والدواعي والاسباب.
وعلى عكس العي والحصر الطارئين هذين تكون حالات تفيض النفس فيها بألوان من الترسل يَعْجَبُ الكاتب كيف تتأتىّ له في ظروفٍ صعبة تصرفه الصوارف فيها عن التفكير والتعبير فلا يكونان منه على بال.
ولقد يقول قائل: إن للشعر اجواءه, وللكتابة اجواءها, وإن ثمة اوقاتاً تصلح لهما. وذلك بعد توافر الافكار والمشاعر والكفايات, ولكن ما عرفناه من تجارب افناء الشعراء والمترسلين يؤكد أن المسألة ليست بهذه البساطة, والا فمن يفسّر لنا كيف كتب الروائي الروسي دستويفسكي رواياته العظيمة في حالات افاقته من الصرع الذي كان يرهقه من امره عسراً أو وهو يكابد في دفع الدائنين, أو وهو يعيش مرارة السجن في سيبيريا؟ ومن يفسّر لنا كيف كتب بدر شاكر السياب معظم شعره وهو ملقى على سرير المرض وقد وزعوا دماءه في القناني حسب ما يقول؟ وكيف نفسّر كتابة سيد قطب لتفسير الظلال وهو يعاني من داء الرئة في اعماق السجن؟ وغير ذلك كثير كثير..
إن لعلم النفس – إن كان ثمة علم موثوق للنفس – ان يكون ذا اجتهاد في هذه المسألة.. بيد أن هذا العلم, حتى وإن كان اليقين فيه غالباً يظل دون مرتبة «عين اليقين» من تجارب المبدعين, ودون مرتبة «حق اليقين» الذي لا يؤتى دركه إلا افراد معدودون على تقلب الايام والسنين.

Leave a Reply