في الحاجة إلى السوسيولوجيا والسوسيولوجيين بالمغرب

كان لإعدام معهد البحث الاجتماعي في السبعينات وتقزيم شعب الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع أثر قاتل على إنتاج معارف علمية رصينة بخصوص المجتمع المغربي الحابل بالتحولات والتغييرات الاجتماعية والثقافية. وعلى الرغم من الخلخلة النسبية التي شهدتها نهاية التسعينيات، ثم التبني الرسمي لإحياء وتطوير الفلسفة في أسلاك التربية والتعليم، تبقى الحاجة كبيرة إلى سياسة للبحث العلمي في المجال الاجتماعي يسهر على إعدادها الباحثون المغاربة من دون أن تمسهم يد السلطة أو توجههم إشاراتها التي لا تخلو من منفعية سياسية ضيقة ومرحلية !

فما يزال المجتمع المغربي خزانا لا ينضب ومنجما غنيا بالظواهر والقضايا والإشكاليات التي تتطلب إعمال العلم الاجتماعي لإنتاج معرفة أكاديمية تساهم في تداول أفكار ومعاني جديدة. ومن شأن ذلك أن يخلخل الثوابت السياسية والثقافية المتداولة بين العامة والساسة والنخب ويخرج بمفاجآت عجيبة تدفع إلى إعادة النظر في الرؤى والمواقف والآراء الجاهزة...

ذلك أن المغرب والمغاربة متعددو الثقافات والأجناس والعادات والطقوس والتمثيلات الثقافية ومعاني الزمان والمكان والآخر وغيرها من محاور وموضوعات البحث الممكنة. كما شهدت البلاد في النصف الثاني من القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين تطورات ديموغرافية و تحولات في المنظومات القيمية وظواهر ثقافية واجتماعية مستجدة تحتاج إلى إكسابها معنى علميا يتكفل به الأكاديميون بكل تجرد أو ميل نحو التبني الأعمى لخط السير الرسمي.

لا شك أن لعلم الاجتماع سلطة علمية وفكرية قد تتحول إلى سلطة سياسية نظرا لحساسية الموضوعات التي يشتغل عليها. وحينما يتم التعامل معه بكل "روح رياضية" ورحاب صدر.. سنكون فعلا قد خطونا خطوة أساسية نحو المجتمع الديمقراطي الحداثي المنتظر !. هكذا، يمكنه أن يرى نفسه في مرآة العلم الاجتماعي لا أن يرى الصورة التي تعكسها مرآة السلطات المهيمنة سياسيا او ثقافيا او اقتصاديا.

لقد عرفت الجامعة المغربية طفرة نوعية من حيث كم الشعب و المسالك و وحدات البحث ذات الصلة بعلم الاجتماع، كما تضاعف عدد الطلبة و الباحثين و الأساتذة، لكن من دون أن يفي ذلك في سد الخصاصة من حيث التأطير و الإشراف على البحوث، أو من حيث وضع سياسة وطنية للبحث الاجتماعي و دعم الجهود التي تسير في هذا الاتجاه. و هذا ما يجعل بعض المبادرات الفردية أقوى ظهورا و أكثر تأثيرا مما يعتمل داخل ردهات وحدات البحث و شعب و مسالك التدريس.

و لا يخفى على المهتمين و المتتبعين الاتجاه نحو الدراسات الممولة من قطاعات و مؤسسات وطنية أو أجنبية، أوروبية أو أمريكية. و الحال أننا في حاجة إلى بحوث علمية رصينة تنطلق من إشكاليات وطيدة الصلة بسياقنا و رهاناتنا، و ليس إلى دراسات تحت الطلب تخدم أهدافا إدارية و سياسية أو أمنية غير واضحة. كما لا تخفى خطورة ما يمكن تسميته بالسوسيولوجيا العفوية او الانطباعية التي تضع اليد وسط إشكالات عويصة من دون اخذ ما يكفي من الحذر، نظرا للضغط الإعلامي الذي قد تمارسه بعض وسائل الإعلام المختلفة على بعض الوجوه و الأسماء التي يتكرر حضورها في الحوارات الصحافية أو البرامج التلفزيونية.

و هذا ما يبرز الحاجة الإعلامية إلى تقديم "الخبرة" السوسيولوجية في تناول القضايا و الظواهر الاجتماعية في المغرب في إطار اضطلاع وسائل الإعلام بوظائف مراقبة البيئة المغربية و إخبار الجمهور بالمستجدات و التحليلات التي يمكن أن تساعده على الفهم و الفعل، و بالتالي تغيير المعتقدات و السلوكات.إلا أن هذا ينبغي ألا يدفع إلى التسرع في إبداء الرأي أو تقديم وصفات جاهزة للوصف و التحليل و التفسير، من دون السقوط في فخاخ الايدولوجيا الخفية أو إعادة إنتاج تمثيلات و أحكام و مقولات قد تتحول إلى بديهيات أو مسبقات تحتاج إلى الكشف عن أوهامها و إعادة النظر في يقينياتها.

من ثمة، تبرز أهمية المعرفة العلمية المتجردة من الأهواء السياسية أو الإيديولوجية أو المصالح المالية غير الظاهرة للعيان التي من شانها أن تدفع بالتفكير العلمي و تجذير المفاهيم و المقولات الهيمنة و العقلانية داخل المجتمع، و تكشف عن أنواع الهيمنة و التضليل و التغليط و إخفاء المصالح وسط ركام التعابير و المعتقدات و التمثيلات الدينية أو التاريخية أو العرقية أو اللغوية أو الجهوية،الخ.

لا شك أن للسوسيولوجيا مستقبل زاهر بالمغرب إن صدقت النيات و توجهت الجهود نحو تقديم الحساب للعلم و المعرفة لا لدافعي الشيكات من المغرب أو خارجه، حيت سيصبح علم اجتماع إداري تحت الطلب لا طعم و لا لون له. و لعل تجديد الدماء و تشجيع الطاقات الشابة التي تزخر بها الجامعات المغربية و الثقة في قدراتها و إرادتها كفيل بزرع بذور الأمل في تطوير سوسيولوجيا مغربية معاصرة .

Leave a Reply