عالم وعلم النفس الضبابي

يعتبر العلم عالم النفس نسبة للبيولوجيا أعقد منه وأشد على الاستعصاء، وأكثر في المراوغة والتملص، والإفلات من قبضة التكنولوجيا والعلم الحديث. إنه «عالم وعلم النفس» الذي يخطون فيه خطوات متعثرة، وببطء كبير منذ فترة قصيرة وبتطور محدود.
ذلك العالم الذي هو كيان لكل منَّا، وقطعة من تشكُّلنا، وحظٌّ من وجودنا، حديثه العذب يناجينا كل لحظة، وهمساته تبث إلينا مع كل نفس وإفراز هورمون.
هذه المنظومة الداخلية التي تميِّزنا كبشر وترفعنا كبني آدم هي «النفس» المختبئة في أحشائنا، تمشي مع تدفق الدم ومرور السيالة العصبية. «ولقد كرمنا بني آدم».
هذا الميل العجيب للصعود والهبوط، الإفساد والإصلاح، لا يمكن معرفته بجهاز الضغط، ولا مقياس تحليل سكر الدم، لا بجهاز ريختر للزلازل، ولا بتخطيط القلب الكهربائي، لا بجهاز دوبلر للسيالة الدموية، ولا بجهاز الصدى الصوتي «السونار».
كل ما يعرف منه وعنه هو ما يصدر عنه من سلوك فقط، لذا لا غرابة في نشوء مدرسة كاملة في عالم النفس تسمي نفسها «مدرسة علم النفس السلوكي»، لذا احتار الكل وتجادلوا في فهم هذا العالم، الظاهر الباطن، الطافي والمستتر.
لقد كانت النفس مثل «أبو الهول» فأعيت الأطباء والفلاسفة، والمفكرين والعلماء، هذا الصامت الناطق، الجامد المتحرك، والواعي غير الواعي، ولكن اتفقوا أن أعظم شيء في هذا الوجود هو وجود الإنسان الذي يجمع كل الجدل فيه «وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً».
إن هذه النفس التي تعصف فيها تيارات الخوف، زوابع الغضب، أعاصير العنف، زمجرة الحقد، رياح الشهوة، كما يمر فيها نسيم الخير، ويبزغ فيها شمس الأمل، وتنبت فيها زهور الحب، وتتضوع بعبير التفاؤل وعطر البر والإحسان.
إن هذه النفس هي اختزال العالم، وشفرته المصغرة، ونسخته المضغوطة، في كيان صغير هش ضعيف، مع هذا فهو قوي في ضعفه، عظيم في هشاشته، جميل في دقته ورشاقته. «أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين».
هل الخوف أمر طبيعي والحزن شيء عادي؟ وهل إلى الخلاص منهما من سبيل؟ كيف يمكن فهم الأخلاق؟ بل كيف خلقت الأخلاق، وتعارف الناس عليها، واتفقوا على الالتزام بها والتقيد عند حدودها؟ ما معنى أن يصوم الإنسان عن الطعام والشراب؟ ما معنى أن يكفَّ عن القتل؟ ما معنى أن يتوقف عن العدوانية؟ ما معنى أن يزكي نفسه؟ ما معنى أن يسجد ويركع لرب لا يراه؟ ما معنى أن يلجم شهواته ويصقل روحه ويمشي باتجاه التكامل النفسي؟.

Leave a Reply