يُفَوتُ المتخصصون في علم النفس الاجتماعي والسياسي العديد من الفرص بسبب الانكفاء الأكاديمي داخل أسوار الجامعات وفي أروقتها . من هذه الفرص اللافتات والشعارات التي ترفع في عالمنا العربي سواء في المواسم الانتخابية أو التظاهرات والحراك السياسي .
إن هذه اللافتات والشعارات مادة دسمة لاستقراء المزاج السائد، والهواجس التي تدور في باطن النفس، باستثناء تلك الشعارات المعلّبة التي تصلح كما يظنّ من يرفعونها لكل زمان ومكان .
إن العفويّ من هذه المادة الخام يصلح لِسَبْر أغوار الناس، والكشف عن المكبوت المتعاظم .
فالهوامش أحياناً أهم من المُتون، والتفاصيل التي تبدو عابرة قد تملك من طاقة الإيحاء ما لا تقوى عليه العناوين الكبرى، تلك التي سَخِر منها أرنست همنغواي وسمّاها أوراق الألف دولار غير القابلة للصرف .
لقد ترجّل علماء اجتماع ونفس عن المنصات العالية لقراءة وتحليل ما يدور في أزقة مدنهم وقراهم، ومنهم من بحثوا عن سرعة الإيقاع وبطئه في حراك مجتمعاتهم تبعاً لأنماط الإنتاج السائدة، أو المحاصيل التي تعد المصدر الأكبر للدخل القومي، فالكاكاو والنفط والمطاط والقطن وحتى شجرة الزيتون، ليست مجرد محاصيل موسمية بالنسبة إلى علم النفس الاجتماعي، كما أن العمران في أي بلد، أو شكل الأثاث الأكثر تداولاً، يصلحان لقراءة المزاج الشعبي . وثمّة تجارب مثيرة في هذا المجال، والظاهرة ليست طارئة، فقد سبق لفلاسفة وعلماء أركيولوجيا أن قرأوا الحياة السياسية والاجتماعية في بعض البلدان من خلال ما تبقّى من أطلال القدماء فيها .
اشبنغلر الألماني استهوته الأقواس والقباب والدوائر في الحضارة العربية الإسلامية، وهناك من اجتذبته الزوايا الحادة في بعض الحضارات، حتى مصطلح المائدة المستديرة ليس مجرد مصطلح للدلالة على شكلٍ بقدر ما هو، بدءاً من جذره التاريخي عندما جلس الفرسان بشكل دائري حول الملك آرثر، تعبير عن النديّة . أو الاعتراف بأن من يتحلّقون حول هذه المائدة لا فضل لأحدهم على آخر .
إن اللافتات والشعارات التي رُفِعَتْ وبغزارة حتى أوشكت أن تحجب الفضاء في الحراك العربي لهذا العام، لم تدرس حتى الآن وعُوملت من منطلقات سياسية محدودة الأفق، وقراءة مثل هذه الظواهر منوطة بأكاديميين متخصصين في العلوم الإنسانية وليس بالكاميرات والشاشات، والمعلقين العابرين على الأحداث .
ولو أخذنا مثالاً حضور فلسطين أو غيابها عن هذه الشعارات، لوجدنا أن دلالة هذه المراوحة السياسية والإعلامية بين الحضور والغياب أبعد مما تبدو عليه .
والفارق بين الخطاب القومي الذي كان سائداً في خمسينات وستينات القرن الماضي وبين الخطاب المعاصر، لا يُقاس إلا من خلال معيار واحد، هو تعريب القضية وأسلمتها، بل وأَنْسَنَتُها مقابل تضييقها بحيث تصبح بمساحتها الجغرافية وتعدادها الديمغرافي فقط .
لنعترف بأنه يضيع علينا الكثير في حُمّى هذا التسارع لأحداث لم يكن بالإمكان ضبط الساعات على إيقاعاتها .
فهل يبادر أصحاب هذه الاختصاصات إلى المجازفة بتعريض أقلامهم وأوراقهم للهواء الطلق، ولكل ما يعلق به من دخان وغبار؟
الخليج
الأحد 06-11-2011
عودة
طباعة
أرسل لصديق