( د. مصطفى رجب )

مع مطلع القرن العشرين بدأ ميدان علم النفس يزخر بالعديد من مقاييس الذكاء التي اهتمت –على العكس من اختبارات جالتون- بقياس ما يسمى بالذكاء المكتسب والذي يعكس عادة ما يكتسبه الفرد من خبرات ومعارف ومعلومات ومن أشهر المقاييس التي ذاع صيتها في تلك الفترة ستانفورد، بينيه ومقياس وكسلر لذكاء الراشدين.
إن المتتبع لنشأة مقاييس الذكاء في علم النفس وحتى السبعينيات من القرن العشرين لا يستطيع أن ينكر النجاح الباهر الذي حققته حركة القياس العقلي في علم النفس وذلك بتقديمها لأول مرة مجموعة من المقاييس والاختبارات الموضوعية المقننة التي تتسم بالثبات والصدق أمكن الاعتماد عليها في قياس القدرات العقلية المختلفة عند الأفراد وعلى رأسها مقياس الذكاء وهناك العديد من الفوائد التي نتجت عن استخدام الباحثين لاختبارات الذكاء، منها مثلاً: استخدام اختبارات الذكاء لمفهوم نسبة الذكاء وهو مفهوم لم يكن موجوداً من قبل، بحيث أمكن الاعتماد عليها في تصنيف الأفراد إلى فئات حسب نسب ذكائهم ومن ثم التنبؤ بمدى كفاءتهم في الأعمال والمهام التي يناط إليهم بها.
كما أثبتت اختبارات الذكاء نجاحاً عالياً في قدرتها على التنبؤ بالتحصيل الدراسي، بحيث أمكن الاعتماد عليها في إلحاق الأطفال بنوع التعليم الذي يتناسب مع قدرتهم ولم يقتصر استخدام اختبارات الذكاء في مجال التعليم الدراسي فحسب، بل امتد ليشمل مجالات أخرى مثل التقييم الإكلينيكي والاختبار المهني، حيث ساعد على استخدام مقاييس الذكاء في تقييم العديد من البرامج العلاجية وبرامج قبل وبعد العلاج أو التدريب.
هل طفلي ذكي؟
والسؤال الذي يشغل بال كل أب وأم هو: هل أستطيع قياس ذكاء طفلي؟ وإذا تبين أنه ذكي فكيف يمكنني الحفاظ على نعمة الذكاء؟ بل وتنميتها؟ وهل تظل نسبة الذكاء للفرد ثابتة سني حياته؟
الواقع أن الإجابة عن هذا السؤال ما زالت مطروحة محوطة بكثير من النقاش، فلم يتفق بعد علماء النفس على رأي قاطع فيها، نظراً لأن هناك الكثير من العوامل التي تحول دون قياس نسبة ذكاء الفرد الواحد بشكل دقيق في مراحل النمو المختلفة، كما أن العوامل الانفعالية وظروف البيئة تؤثر في الشروط التي يجري فيها الاختبار ولكن رغم ذلك كله يمكن القول بوجه عام إن نسبة الذكاء تظل ثابتة في مختلف سني حياته المختلفة، لكن هناك بعض الفرص لتنمية الذكاء وتفعيله.
ويرى العلماء أن الذكاء مفهوم مجرد، فهو لا يشير إلى شيء مادي أو ملموس يمتلكه الشخص الذكي ولكنه مفهوم نصف به السلوك والتصرفات التي تصدر عن الفرد.
خصائص الذكاء:
1- الذكاء تكوين فرضي، فهو لا يشير إلى شيء مادي ملموس يمتلكه الشخص ولا يلاحظه مباشرة ومن ثم لا يقاس قياساً مباشراً ولذلك نستدل عليه عن طريق آثاره أو النتائج المترتبة عليه.
2- الذكاء عامل مشترك بين جميع العلميات العقلية ويسهم فيها بدرجات متفاوتة وهذا العامل يمثل الجانب المعرفي من الشخصية، أي قدرة الشخص على فهم معالم بيئته واكتشاف الصفات الملائمة للأشياء والأفكار وعلاقة بعضها ببعض.
3- الذكاء استعداد يرثه الفرد عن أبويه وأجداده ولذلك فإن خاصية الذكاء تلازم الشخص طوال حياته وتعد من الصفات الثابتة نسبياً في شخصية الفرد وليس معنى هذا أن البيئة لا تؤثر في الذكاء واستغلال هذا الموروث إلى أقصى درجة ممكنة، بل إنها قد تكون عاملا مساعدا أو مثبطا للذكاء.
4- نمو الذكاء:
أكدت نتائج اختبارات الذكاء أنه ينمو ويقف عند سن السادسة عشرة تقريباً وهي نتيجة قد تكون مثيرة للدهشة إلى حد ما، فقد كانت السن المضبوطة التي يتوقف فيها الذكاء هي سن الرابعة عشرة وبينيه Pinet يجعله في سن الخامسة عشرة وأوتسن يجعله في سن الثامنة عشرة وقد قامت دراسات أخرى أثبتت ذلك منها دراسة "بلادر" والتي تبين منها ثبات الذكاء عند سن الخامسة عشرة.
5- توزيع نسبة الذكاء
دلت البحوث على أن توزيع نسب الذكاء في أي مجتمع إنساني يتبع المنحنى الاعتدالي ويمكن توضيح هذا التوزيع في الجدول التالي:
مستويات الذكاء
نسبة الذكاء
النسبة المئوية لعدد الأفراد
عبقري
ذكي جداً
ذكي أو فوق المتوسط
عادي أو متوسط الذكاء
غبي أو أقل من المتوسط
غبي جداً
ضعيف مورون
أبله
معتوه
140 فأكثر
120-140
110-120
90-110
80-90
70-80
50-70
25-50
أقل من 25
0.25%
6.75%
13%
60%
13%
6%
0.75%
0.19%
0.06%
6- الفروق بين الجنسين في الذكاء:
إن جنس الطفل "كونه ذكراً أو أنثى" يؤثر في نشاطه العقلي وذلك لسببين، أولهما أنه من المحتمل أن توجد روابط جنسية في الموروثات تختلف في تحديد أدوار كل من الجنسين وما يربط بها من قدرات.
وقد اهتم كثير من الباحثين ببحث الفروق بين الجنسين في مستوى الذكاء وقد وجد هؤلاء الباحثون عندما قارنوا بين درجات الذكاء التي حصل عليها الذكور وتلك التي حصل عليها الإناث أن التميز يميل إلى مصلحة أحد الجنسين تارة ولمصلحة الجنس الآخر تارة أخرى.
مقاييس الذكاء:
ارتبطت نشأة مقاييس الذكاء من الناحية التاريخية بازدهار حركة القياس العقلي التي بدأها جالتون في أواخر القرن التاسع عشر، فقد اهتم جالتون بقياس ما يسمى بالذكاء الموروث عند الأفراد، حيث تأثرت بحوثه بنظرية شارلز دارون في النشوء والارتقاء كما تأثرت بقوانين مندل في الوراثة التي ظهرت في ذلك الوقت. وانعكس اهتمام جالتون بدراسة الاستعدادات الوراثية والأولية لمفهوم الذكاء في تقديمه
مجموعة من المقاييس والاختبارات العقلية التي تعتمد على مقياس زمن الرجع وهو المفهوم الذي رأى جالتون أنه يكشف عن الجوانب البيولوجية والفسيولوجية لمفهوم الذكاء.
ورغم النجاح والشهرة التي حققتها مقاييس الذكاء في العديد من الميادين، غير أن حركة القياس العقلي وما صاحبها من ظهور اختبارات لقياس الذكاء أسهمت، إلى حد كبير، في إهمال الباحثين لدراسة طبيعة هذا المفهوم من الناحية النظرية وحتى الآونة الأخيرة ارتفعت أصوات كثير من الباحثين تنادي بإعادة النظر فيما تقيسه اختبارات الذكاء الحالية، حيث تتسم بكثير من جوانب القصور والتي تتلخص فيما يلي:
1- افتقار معظم اختبارات الذكاء إلى إطار نظري تقف عليه. يظهر ذلك في أن نشأة اختبارات الذكاء في علم النفس جاءت تلبية لحاجة عملية خاصة بمتطلبات المجتمع، فغني عن الذكر أن ظهور اختبار ستانفورد-بينيه جاء استجابة لطلب الحكومة الفرنسية توفير أداة موضوعية للكشف عن الأطفال المتأخرين عقلياً، كما قدم وكسلر مقياسه المعروف بمقياس وكسلر لذكاء الراشدين أثناء عمله في مستشفى بلنيو، حيث شعر بضرورة الحاجة إلى أداة موضوعية لتقييم المرضى من الناحية الإكلينيكية. كذلك أثارت ظروف الحرب العالمية الأولى والثانية كثيراً من المشكلات الخاصة باختبار وتصنيف آلاف المجندين في الجيش، مما ساعد على ظهور اختبارات الذكاء الجمعي والتي كان لها أثر فعال في مواجهة هذه المشكلات.
2- ترتب على نجاح وانتشار اختبارات الذكاء إهمال الباحثين تعريف هذا المفهوم من خلال إطار نظري معين، بل ذهب البعض إلى القول بأن تعريف الذكاء هو ما تقيسه اختبارات الذكاء وذلك ليؤكدوا الوضع الراهن لتعريف هذا المفهوم ومدى الحاجة في المستقبل لنظريات جديدة تكشف عن الجوانب المختلفة لمعنى الذكاء.
3- إن تحليل أسئلة وبنود اختبارات الذكاء الحالية على اختلاف أنواعها يكشف عن وجود تشابه كبير في مضمون الأسئلة، فرغم حدوث تقدم كبير في نظريات القياس العقلي ونماذج جديدة مثل نظرية السمات الكامنة، غير أن التقدم في نظريات القياس العقلي لم يصاحبه تقدم يذكر في مضمون المقاييس والاختبارات النفسية وذلك لافتقارها لنظرية سيكولوجية خاصة في تعريف الذكاء.

Leave a Reply