داخل عقل مريض أحدث ثورة في علم الأعصاب

كان والد صديقتي جراح أعصاب. عندما كنت صغيرة، ما كنت أعلم ما يقوم به جراح الأعصاب. ولكن بعد سنوات، حين أصبحت طالبة دراسات عليا في قسم علم النفس في جامعة ماكغيل، عاد اسم هذا الرجل إلى حياتي. خلال قراءتي مقالات عن الذاكرة في المجلات الطبية، وقعت على تقرير كتبه طبيب أجرى جراحة على الدماغ ليشفي شاباً من داء صرع عنيد. لكن الجراحة أفقدته القدرة على تكوين ذكريات جديدة. وكان أحد الأطباء الذين شاركوا في وضع التقرير والد صديقتي، وليام بيتشر سكوفيل، والمريض كان هنري.
شدني هذا الرابط الطفولي مع جراح أعصاب هنري إلى القراءة عن «هنري ماليسون، مريض فقدان الذاكرة». وعندما انضممت لاحقاً إلى مختبر براندا ميلنر في معهد مونتريال لعلم الأعصاب، صارت حالة هنري شغلي الشاغل. فقد تمكنت خلال إعدادي رسالة الدكتوراه من إخضاعه لاختبارات عدة عام 1962، حين قدِم إلى مختبر ميلنر في إطار دارسة علمية. كانت ميلنر أول عالِم نفس يخضع هنري لفحوص بعد الجراحة. وأحدث تقريرها، الذي أعدته مع سكوفيل عام 1957 ووصفت فيه جراحة هنري وعواقبها المريعة، ثورة في علم الذاكرة.
حاولتُ توسيع الفهم العلمي لفقدان الذاكرة الذي عاناه هنري بتفحص ذاكرته من خلال حاسة اللمس. كان تحقيقي الأول معه مركّزاً ووجيزاً ولم يتجاوز الأسبوع. ولكن بعد انتقالي إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، اتضحت لي قيمة هنري الكبيرة كمشارك في الأبحاث. لذلك أمضيت ما تبقى من حياته (46 سنة) في دراسته. ومنذ موته، خصصت عملي لربط خمس وخمسين سنة من البيانات السلوكية الغنية بما نتعلمه عن دماغه المشرّح.

حياته الباكرة

عندما التقيت هنري للمرة الأولى، أخبرني قصصاً من حياته الباكرة. عرفت الأماكن التي راح يتحدث عنها، وتعاطفت مع تاريخ حياته الذي كان يرويه. فقد عاشت أجيال عدة من عائلتي في منطقة هارتفورد: ذهبت أمي إلى المدرسة الثانوية ذاتها التي ارتادها هنري. ونشأ أبي في الحي عينه الذي أقام فيه هنري قبل الجراحة وبعدها. وولدت أنا في مستشفى هارتفورد، الذي خضع فيه هنري للجراحة. ومع كل هذا التقاطع بين خلفيتَينا وتجاربنا، بدا لي مثيراً للاهتمام أن يجيبني كلما سألته عما إذا كنا قد التقينا سابقاً: «نعم، في المدرسة الثانوية». لا يسعني إلا تخمين الطريقة التي ربط بها هنري بيني وبين تجربته في المدرسة الثانوية. فربما أشبه فتاة كانت معه في المدرسة أو أنه بنى تدريجاً خلال زياراته الكثير إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا نوعاً من الألفة تجاهي وأدرج شعوره هذا بين ذكرياته عن المدرسة الثانوية.
كان هنري ذائع الصيت، إلا أنه لم يدرك ذلك. فقد حوّلته حالته المميزة إلى موضع بحث علمي وإعجاب شعبي. حتى إنني تلقيت طوال عقود طلبات من وسائل إعلام لإجراء مقابلات معه وتصويره. وكل مرة أخبرته فيها كم كان مميزاً، فهمني للحظات ومن ثم نسي ما قلته له.
سجّلت شركة البث الكندية محادثاتنا عام 1992 لأجل برنامجَين إذاعيين، الأول مخصص للذاكرة والثاني للصرع. وقبل سنة، كتب فيليب هلتس مقالاً عن هنري لصحيفة نيويورك تايمز، وجعله لاحقاً محور كتابه Memory’s Ghost (شبح الذاكرة).
تمحور الكثير من التقارير العلمية وفصول الكتب حول هنري. ويُعتبر من الحالات الأكثر ذكراً في منشورات علم الأعصاب. فإذا فتحت كتاباً عن علم النفس، ربما تعثر في بعض صفحاته على وصف عن مريض يُعرف عادةً بـ{هـ.م.» إلى جانب مخطط للحصين (hippocampus) وصورة بالأبيض والأسود التُقطت بالرنين المغناطيسي. هكذا تحوّلت إعاقة هنري، التي كانت كلفتها كبيرة بالنسبة إليه وإلى عائلته، إلى مكسب علمي.
خلال حياته، حافظ الناس الذين عرفوا هنري على هويته سرّاً، مشيرين إليه بالحرفين الأولين من اسمه وشهرته. وعندما كنت أقدّم محاضرات عن مساهمات هنري الكبيرة في العلم، صادفت دوماً فضولاً قويّاً لمعرفة مَن يكون. غير أننا لم نكشف اسمه للعالم إلا بعد موته عام 2008.
خلال العقود التي عملتُ فيها مع هنري، حرصت على ألا يتذكره العالم من خلال شروح علمية موجزة في كتب دراسية. فلم يكن هنري موليسون مجرد مجموعة من نتائج الفحوص وصور الدماغ، بل كان رجلاً لطيفاً، مرحاً، واجتماعيّاً يتمتع بحس فكاهة، رجلاً عرف أنه يعاني ذاكرة ضعيفة وتقبّل هذا الواقع. إذاً، أخفى هذان الحرفان وراءهما رجلاً بكل معنى الكلمة، كما قصّرت بياناته العلمية عن أن تعكس حياته الكامنة خلفها. لطالما أخبرني هنري أنه يأمل أن تساعد الأبحاث التي تُجرى على حالته آخرين على العيش حياة أفضل. ولا شك في أنه كان سيفخر بنفسه لو علم الفوائد الجمة التي قدمتها مأساته للعلم والطب.

أمر مسلم

تشكّل الذاكرة عنصراً مهمّاً في كل ما نقوم به. لكننا لا نعي نطاق ذلك وأهميته، بل نعتبر الذاكرة أمراً مسلماً به. ففيما نسير، نأكل، ونتحدث، لا ندرك أن سلوكنا ينبع من معلومات تعلمناها سابقاً ونتذكرها. نعتمد دوماً على ذاكرتنا لنجتاز كل لحظة من يومنا. نحتاج إلى الذاكرة لنستمر، فمن دونها لن نستطيع ارتداء ملابسنا، التجول في منطقتنا، أو التواصل مع الآخرين. تتيح لنا الذاكرة التأمل في تجاربنا، التعلّم من ماضينا، وحتى التخطيط لمستقبلنا. تمدنا الذاكرة بتلك الاستمرارية من لحظة إلى أخرى، من الصباح إلى المساء، يوماً بعد يوم، وسنة بعد سنة.
من خلال حالة هنري، اكتسبنا بصيرة أتاحت لنا تفكيك الذاكرة إلى عدد من العمليات المحددة وفهم الدارات الدماغية الكامنة وراءها. صرنا نعرف اليوم أننا عندما نصف ما تناولناه على العشاء الليلة الماضية أو نذكر بعض تفاصيل التاريخ الأوروبي أو نطبع جملة على الكمبيوتر من دون النظر إلى لوحة المفاتيح، نستعين بأنواع مختلفة من الذكريات التي خزناها في دماغنا.
ساعدنا هنري في فهم ما يحدث عندما نفقد القدرة على تخزين المعلومات. فقد احتفظ بمعظم المعلومات التي اكتسبها قبل الجراحة. ولكن في حياته اليومية بعدها، بات يعتمد كثيراً على ذاكرة المحيطين به. فكان أعضاء عائلته ومن ثم موظفو دار الرعاية يتذكرون ما تناوله هنري كل يوم، ما الأدوية التي يجب أن يأخذها، وما إذا كان عليه الاستحمام. وساهمت نتائج فحوصه وتقاريره الطبية ومقابلاته في حفظ كثير من المعلومات عن حياته التي عجز عن تذكرها، مع أن هذه الموارد لا تستطيع بالتأكيد أن تحلّ محلّ القدرات التي خسرها هنري، لأن الذاكرة لا تساعدنا على الاستمرار فحسب، بل تؤثر في نوعية حياتنا وتصوغ شخصيتنا.

Leave a Reply