جدل العلم والفلسفة… إلى أين؟ * مجدي ممدوح

قدر الفلسفة هو السؤال، بل أن تعريف الفلسفة أصبح هو الآخر سؤالاً، فالسؤال الأهم والأحدث في مسيرة الفلسفة أصبح سؤال الفلسفة نفسها، أي "ما هي الفلسفة"..؟.

وإذا كان جواب هذا السؤال ظل حاضراً وربما بدهياً فيما مضى، حيث هيمن المفهوم الأرسطي على الفلسفة بوصفها بحثاً عن المبائ الأولى، إلا أن الفلسفة وفي سياق تطورها وبحثها الدؤوب عن خطاب محايث للعصر، قد تمردت على الترسيمة الأرسطية التي هيمنت عليها لعشرين قرناً أو يزيد، بعد أن أثبت العلم وعلى نحو متزايد أنه لم تعد هناك مبادئ أولى يتوجب البحث عنها، لقد تضافرت العلوم جميعها لكي تقدم تصوراً للكون بوصفه بالغ التعقيد وأن من التبسيط المخل أن نحاول تفسير وتوصيف الكون وفق مبادئ أولية بسيطة ومغرقة في العمومية، ولكون الفلسفة نقدية في جوهرها فقد استطاعت أن تواجه هذا التحدي الجديد، واستطاعت أن تحدث انعطافة حادة في مسيرتها، ومع أن جواب هذا السؤال- أعني ما هي الفلسفة، قد دشنه جيل دولوز وفيليس غاتاري في كتابهما المشترك والموسوم "ما هي الفلسفة" حيث أوضحا بجلاء أن الفلسفة هي إبداع المفاهيم، إلا اننا نستطيع الجزم أن هذه الرؤية الجديدة للفلسفة لم تكن إلا تتويج لمسيرة الفلسفة لقرن كامل ساهم في بلورتها كل من نيتشه وفتجنشتين، وميشيل فوكو وجاك دريدا ورولان بارت، وغيرهم كثير وإن بدرجة أقل، لقد أدى هذا التعريف الجديد للفلسفة بوصفها إبداعاً للمفاهيم إلى إنهاء جدل طويل حول مصير الفلسفة ومقولة نهاية الفلسفة أو موت الفلسفة، فالفلسفة لا تموت، بل أن المفاهيم هي التي تموت عندما تغدو غير صالحة في شرح وتوصيف الوجود بظاهراته المتعددة، إن مفاهيم معينة تكون صالحة في عصر ما، وبفعل التغيرات أو ربما القطيعات في الخطاب تغدو هذه المفاهيم غير متوافقة مع التوجهات الجديدة في الخطاب ما يؤدي بالضرورة إلى موت هذه المفاهيم وانقراضها لصالح مفاهيم جديدة، وهكذا تظهر المفاهيم وتنقرض لتبقى الفلسفة المعين الذي لا ينضب لإبداع المفاهيم، وضمن هذا التصور فأن الفلسفة لا يمكن فصلها عن المواضيع التي تمفهمها، فهي لا يمكن أن تحيا منفصلة، ووصف غاتاري الفلسفة بأنها ارتحال دائم في ديار الاغيار، فهي ترتحل إلى العلوم في عصرنا الراهن لكي تخرجها من المأزق الذي وقعت فيه فيما يخص نظرية المعرفة، لقد وصلت العلوم إلى طريق مسدود بعد ان كثرت العلوم الفرعية وتشعبت، كما أن بروز علوم جديدة تمزج بين علمين قائمين حتم على فلاسفة العلم البحث عن ميثولودوجيا جديدة للعلوم المستحدثة تنضوي تحت قبة ابستومولوجيا العلوم، وهي ترتحل إلى الأخلاق من أجل وضع منظومة أخلاق وضعية ذات منابع غير ميتافيزيقية، وهي ترتحل الى علم النفس من أجل مساعدته على تجاوز الشروخ التي ترتبت على التباعد بين علم النفس التحليلي وعلم النفس السلوكي ومحاولة إيجاد منحى ابستومولوجي جديد يكون قادرا على تجاوز ميتافيزيقية الفرويدية ووضعية المدرسة السلوكية.

ولكن الفلسفة ومع كل انجازاتها وانعطافاتها الكبرى لم تزل تواجه السؤال الأصعب عن جدواها، ما جدوى الفلسفة في ظل تطور العلوم الذي لم يخطر على بال، وشجرة العلوم التي تكلم عنها ديكارت لم تعد شجرة بل أصبحت غابة متشابكة، والعلوم قدمت أجوبة مقنعة على أعتى الأسئلة الفلسفية، أصل الكون، أصل الإنسان، معنى الحياة، النفس والروح، وطوبوغرافية العقل الإنساني، مسألة القدم والحدوث، مصير الكون، وباتت الفلسفة موضع مساءلة من جديد، خاصة أن الكثير من التصورات التي وضعتها الفلسفة عن الطبيعة والإنسان كانت تصورات باطلة ومخطوءة بل أنها ربما كانت عاملاً معوقاً للعلوم كما هو واضح في أفكار أرسطو الخاطئة التي ظلت الكنيسة تدافع عنها وتحارب كل من يحاول المساس بقدسيتها.

والحقيقة أن الفلسفة أصبحت في مأزق حقيقي بظهور الوضعية أو كما سيسميها كونت بالفلسفة الوضعية، وهو هنا يحدد الفلسفة تحديداً صارماً بوصفها "نسق المعارف العلمية"، والوضعية التي قال بها كونت هي توسيع للفلسفة الطبيعية التي نشأت في بريطانيا في أحضان الفيزياء النيوتونية، فالفلسفة الطبيعية الأنكليزية لم تفسح مجالاً في منظومتها المعرفية للعلوم الإنسانية، وهي على الأرجح كانت تعتقد أن العلوم الإنسانية بحاجة إلى نظرية معرفة مختلفة (ابستومولوجيا)، ولكن كونت وبسبب نزعنه المعادية للميتافيزيقا والتأمل الفلسفي فإنه لم يتوان عن تطبيق نفس المنهج العلمي الطبيعي على العلوم الإنسانية الأخرى كعلم الإجتماع والتاريخ وعلم النفس، وعلينا التنبيه أن مصطلح "الفلسفة الوضعية" لم يكن مقنعاً بالنسبة لكونت "وكان على الدوام يكتفي بمصطلح "الوضعية"، لأن كلمة فلسفة وبسبب اقترانها المزمن مع الميتافيزيقا منذ اليونان كانت تنتج نوعاً من سوء الفهم ما أدى إلى الاقتصار على المصطلح المجرد "الوضعية" تلافياً لسوء الفهم، ويؤكد كونت أن الوضعية هي آخر مرحلة في صيرورة التفكير البشري التي ابتدأت بالمرحلة اللاهوتية، ثم الانتقال إلى المرحلة الميتافيزيقية في العهد اليوناني وصولاً إلى الوضعية التي تعد أرقى وآخر محطة للعقل الإنساني، كانت الفلسفة في عصرها الميتافيزيقي تستند في مقولاتها إلى المعارف العلمية المتاحة في عصر ما، حيث نلاحظ أن العلوم الرياضية والفلكية دخلت في صلب المذاهب الأونطولوجية، فنظرية بطليموس المستندة إلى الأفلاك كانت أساسا لكل النظريات الوجودية التي نشأت مثل "نظرية الفيض الإلهي الفارابية"، ولكن الوضعية لم تقنع بهذا الدور الإسنادي للعلم في صياغة الخطاب الفلسفي، بل أنها ذهبت إلى نهاية الشوط عندما اشترطت على الفلسفة أن تلتزم بالعلم موضوعاً ومنهجاً، فهي(الفلسفة) قول على القول العلمي ينطلق منه ويتحرك في مداه، لقد أصبحت الفلسفة في نظر الوضعيين المحدثين أشبه بال"ميتا علم".

ولقد نحت باشلار لاحقاً مصطلحين مهمين هما "فلسفة الفلاسفة" و"فلسفة العلماء" معتبراً أن الفلسفة الحقيقية هي التي تلتزم بالمنهج العلمي وتتقيد به، عاداً فلسفة الفلاسفة ضرباً من الخيال اللاهوتي.

وبالرغم من كل النجاحات التي حققتها الوضعَية في تعديل مسار الفلسفة ووضعها على الطريق الصحيح وهو طريق العلم التجريبي، إلا أن النزعة العلمية التجريبية المبالغ فيها في الوضعية أدت بالفلسفة إلى التمرد على الكثير من المحددات التي وضعتها الوضعية، خاصة بعد فشل الوضعية في إرساء العلوم الإنسانية على أسس مقنعة، فالمنهج الفيزيائي الذي طبق في علم الاجتماع لم يكن ملائماً مما حدا بأقطاب علم الاجتماع إلى البحث عن منهج آخر، وكان المنهج التأويلي الذي طبقه ديلتي في علم الاجتماع أول تأسيس حقيقي لعلم الاجتماع استطاع أن يقارب الظاهرات الاجتماعية مقاربات نافذة ومعمقة وجعل من علم الاجتماع علماً ممكناً بعد أن دار جدل واسع حول عدم إمكانية وجود علم للمجتمع لتعقد ظاهراته وتنوعها ولا نمطيتها واعتباطها الظاهري. وبالرغم من ذلك فلا زالت هناك اعتراضات واسعة حول قضية وجود ابستومولوجيا مختلفة للعلوم الإنسانية، حيث لا زال أنصار المذهب الوضعي يعتقدون أن الابستومولوجيا العلمية هي الوحيدة التي تصلح لمقاربة أي ظاهرة، طبيعية كانت أم إنسانية.

وبالرغم من كل الوجاهة في الآراء التي تساق حول ضرورة التزام الفلسفة بالمنهج العلمي، إلا أن الفلسفة لم تقنع بهذا الدور الذي يختزلها اختزالاً شديداً ويجعلها تابعة للعلوم ولاحقة لها فاقدة بذلك دورها التاريخي الطبيعي بوصفها محركاً للعلوم وموجهة له، الفلسفة لا تمانع بالطبع من حضور الحقائق والنظريات العلمية في منظوماتها وبناءاتها ولكن شريطة أن تكون هذه العلوم في خدمة النظر والتأمل الفلسفي وليس العكس، ونستطيع أن نرصد هذا التوجه في الفلسفة الكانطية، فبالرغم من طغيان المنهج النيوتني الفيزيائي إلا أنَ كانط لا يجد حرجاً من التفريق المنهجي بين الفلسفة والعلم، كما أنه لا يجد حرجاً من توظيف العلم النيوتوني في إقامة صرح الميتافيزيقا شامخاً كما شاهدناه في نقد العقل المحض، لقد برع كانط في تمثل روح العلم النيوتني ولكنَه لم يتخلَ عن حقه كفيلسوف في إقامة صرح ميتافيزيقي، بل أنَه استغلَ العلم النيوتوني ووظَفه في تدعيم بنائه الميتافيزيقي الشامخ، وهنا علينا التذكير الدائم بأن دور الفلسفة عبر التاريخ هو محاولة تشييد منظومات شاملة ميتافيزيقية في مقاربة الوجود، ولا يلوح في الأفق أي أمل في إزاحة الفلسفة عن هذا الدور أو إقناعها بالتخلي عن الدور الريادي الذي تضطلع به وسط غابة العلوم.

والحقيقة أن تنوع العلوم ودقة اختصاصها والحاجة المتزايدة إلى التخصصات الضيقة تجعل من هذه التخصصات أو الفروع العلمية أبعد ما تكون عن النظرة الشاملة لأي من الظواهر الطبيعية، وتزداد الحاجة جراء ذلك إلى فلسفة للعلوم، وهذه الفلسفة لا يمكن أن تكون علماً شأن العلوم الأخرى، كما أنها لا تقنع بالدور الذي رسمه كونت لها بوصفها نسقاً لفروع العلوم ورابطاً لها، بل أن الفلسفة كما يصرح أقطابها المحدثون يجب أن تبقى على مسافة مناسبة من العلوم، بمعنى أن الفلسفة لا يتوجب عليها الاندغام الكامل بالعلوم وإلا فإنها ستفقد هويتها، وهذا التوجه نجده واضحاً لدى قطب الفلسفة المعاصر يورغن هابرماس الذي يرى أن المسافة يجب أن تظل قائمة بين الفلسفة والعلم، هذه المسافة هي التي تسمح بنقد العلوم وتوجيهها، وهو يدعوها بالمسافة النقدية، ويشاركه في ذلك معاصرة كارل اوتو آبل الذي ينتمي إلى نفس المدرسة وهي المدرسة النقدية المعاصرة، ويعتقد هابرماس وآبل وأنصارهما بأن النزعة النقدية هي الضامنة لاستمرار تطور العلوم، وبغياب النقد ستتوقف صيرورة التاريخ والتقدم، وهكذا أصبحت للفلسفة هوية جديدة هي الهوية النقدية، وتنازلت عن دورها التقليدي في إقامة المنظومات المعرفية والمذاهب الشمولية، ولكن هذا التنازل لم يكن مجانياً، فقد أوجدت لنفسها دوراً أكثر خطورة هو الدور النقدي وهو دور لا يقل ريادة عن دورها التاريخي التقليدي في البحث عن المبادئ الأولى وتشييد الأنطولوجيات.

إن علاقة الفلسفة والعلم علاقة جدلية بامتياز وهي علاقة مليئة بالمفارقات في أحيان كثيرة، حيث أن المفارقات تكون واضحة عندما يعمد بعض الفلاسفة إلى التدخل في صياغة أو تعديل أو إنشاء النظريات العلمية حيث تكون النتائج مخيبة للآمال في أغلب الأحيان كما حصل عندما قام الفيلسوف الإنكليزي وايتهيد باقتراح نظرية تناقض النظرية النسبية وتم التأكد لاحقاً من بطلان كل المنطلقات التي انطلق منها وايتهيد، بل إن الأمر وصل حد الهزل عندما اعتقد كانط جازماً أن سبب موت القطط في المدينة هو انتشار الكهرباء وظل يعتقد أن الكهرباء تولد ضغطاً في رؤوس القطط يؤدي إلى موتها، بل أنه عزا انحطاط قواه العقلية وذاكرته في آخر عمره إلى تأثير الكهرباء على دماغه، كما أن المفارقات لا تقل غرابة عندما يتدخل بعض العلماء في نقد المنظومات الفلسفية أو بناء آراء فلسفية استناداً إلى بعض الاكتشافات العلمية، وربما تكون الأفكار التي طرحها علماء الكوانتم الشباب أمثال هايزنبرغ وشرويدنكر وبوم حول فلسفة الاحتمال ومبدأ اللادقة وغيرها من الأفكار المترتبة على اعتباطيه حركة الجسيمات دون الذرية، إحدى هذه المفارقات والتي جعلت من الفيزياء تنحو منحى غرائبيا، كما أن آراء بعض الفيزيائيين حول مفهوم الزمان والمكان وعدَهما كميات فيزيائية لها وجود موضوعي فيها الكثير من المفارقة، مع أن النظرة العقلية الفلسفية الصائبة ومنذ كانط تدرك ببساطة أن الزمان والمكان هما مفهومان فيزيائيان تم إبداعهما من قبل العقل البشري وليس لهما أي وجود موضوعي في العالم الخارجي ككميات فيزيائية مستقلة.

إن ما قدَمناه من هذه المفارقات السابقة ربما يغنينا عن محاولة التنظير للفروق والتقاطعات بين الفلسفة والعلم، وأرى أن من المتعَذَر علينا في هذه المرحلة من تطور العلوم تقديم إجابات نهائية فيما يخص هذه العلاقة، وبالرغم من الجهود التي بذلت بهذا الخصوص، إلا أن هناك التباساً لا يزال سائداً في هذه العلاقة، فالعلماء ذهبوا بعيداً في تحييد الفلسفة وإنكار دورها، والفلاسفة لم يتنازلوا عن حقهم في الوصاية على العلوم، وربما أن الفكر الإنساني لم تتوفر له فرصة ظهور شخصية فلسفية عبقرية بالإضافة إلى كونها علمية وبالقدر نفسه، ونرى بوضوح أن كل من نظروا للعلاقة بين العلم والفلسفة هم متخندقون إما في خندق العلم أو خندق الفلسفة.

Leave a Reply