عرف المجتمع منذ الاستقلال تغيّرات عديدة مست الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، الأمر الذي خلق نظاما اجتماعيا مغايرا للنظام التقليدي، انعكس على مختلف المؤسسات الاجتماعية. وحسب المختصين في علم النفس، فإن 08 بالمائة من المجتمع الجزائري يعاني من أمراض نفسية تتفاوت خطورتها،
في ظل ضعف التكفل النفسي بمختلف أفرادها، وضعف سياسة التوجيه في هذا الاتجاه.
ذهب المختصون في علم النفس إلى أهمية استحداث مخبر ''بسيكو ـ سوسيولوجي'' خاص، يمكّن من تشريح الظواهر الاجتماعية والأمراض النفسية وتبسيطها، لإيجاد الميكانيزمات المناسبة لتغيير الوضع وعلاج الأمراض المنتشرة، ويهتم بإنجاز دراسات ''وبائية'' حول أسباب الاضطرابات النفسية السائدة عبر الوطن، الأمر الذي يتيح وضع خطة عمل مشتركة مع أفراد الأسر المختلفة، عائلات أو مؤسسات، للوصول إلى حلول.
ويقوم مخبر العمليات التربوية والسياق الاجتماعي بجامعة وهران منذ 2003 بتنفيذ مشروع بحث تتبعي لتطوّر التقديرات الشخصية لجودة الحياة، بمختلف مظاهرها، لدى عيّنات واسعة من الجزائريين البالغين 18 سنة فما فوق، بشكل دوري وعبر فترات متساوية، حدّدت بكل 18 شهرا.
الأطفال ضحايا غياب التفاعل الأسري
وعن أهداف البحث، أفاد الدكتور حبيب تيليوين أنه يعنى برصد التطوّرات الممكنة لتقييم مختلف الشرائح الاجتماعية لجودة حياتها، حيث تمت دراسة عيّنة تقارب 16 ألف شخص، للنظر في كيفية الاستفادة من قياس مجالات جودة الحياة في التعرّف على الصراعات النفسية والاجتماعية، والتنبؤ بحدوثها. وفي هذا الصدد، أكدت الدكتورة بن فليس خديجة أن غياب الحوار والتفاعل الأسري أدى إلى انتشار مختلف المشاكل التي يواجهها الأبناء تجاه آبائهم أو الأزواج تجاه بعضهم، في ظل الاضطرابات الانفعالية والسلوكية التي تظهر لدى الأطفال والمراهقين في سن مبكرة، الأمر الذي أرجعته إلى قلة الوعي والإدراك لدى أفراد الأسرة الواحدة التي تمر بمجموعة من الأزمات والمشاكل، ترتبط غالبا بالنواحي الاقتصادية والاجتماعية والنفسية. وبانسحاب الوالدين من أداء المهام الأبوية بشكل فعّال، يتعرّض المراهقون إلى انتكاسات وانعكاسات للتغيّرات الاجتماعية السريعة، ما ينجم عنه هروبهم من الوسط الأسري أو من واقعهم الاجتماعي بولوج أبواب الانحراف. وهو ما ذهبت إليه الدكتورة بدوخان فايزة، التي أوضحت أن اضطلاع الآباء بالوظيفة البيولوجية والاقتصادية والتربوية فقط، دون دراسة التفاعل النفسي للمراهقين وتجاوبهم مع الواقع الاجتماعي، يدخل الطفل في صدمة اجتماعية، ويعرّض العائلة لمشاكل تتطلب المساعدة من الهيئات المختصة لتوجيه أبنائها، وتلقينهم كيفية التعامل مع أطفالهم.
وذهب الأستاذ قايد عادل إلى أن 80 بالمائة من المجتمع الجزائري يعاني من أمراض نفسية، في غياب الدراسات الإحصائية التي تتيح معرفة أنواع الأمراض. وفي ظل رفض الجيل القديم الاعتراف بكفاءات الجيل الجديد، يتمرّد الأبناء على القيم الاجتماعية، وينطلق صراع سلوكي بين الجيلين.
خلل في التكيّف النفسي والاجتماعي
يؤكد الدكتور نصير بن حالة أن التغيّرات الحاصلة في المجتمع أفرزت خلطا كبيرا في الأدوار والمهام بالنسبة للذكور والإناث، وهو ما أفرز اضطرابا في العلاقات التفاعلية بين الجنسين، ما أعطى مظاهر نفسية مرضية توحي بضغط نفسي وتخفي صراعات عميقة، أقل ما يمكن قوله عنها إنها مؤشرات تدل عن مسار نفسي اجتماعي متناقض ومتذبذب يحمل آفاق خطيرة على الأسر. ومن خلال العلاجات النفسية التي يقوم بها، لاحظ محدثنا اختلاف الصراعات بين الرجل والمرأة، نتيجة التناقض وعدم التكافؤ بين الزوجين.
ويوافقه الدكتور ناصر الدين زبدي، مدير مخبر القياس والإرشاد النفسي بجامعة بوزريعة، هذا الرأي، حيث أفاد أن الدراسات النفسية التي أجريت على عيّنات مختلفة من أفراد المجتمع، أكدت وجود خلل في الأسرة والمجتمع أفرز صراعات متنامية، نظرا لنقص مستوى الوعي، وضعف وسائل الإرشاد الاجتماعي التي سمحت بانتشار العنف على مستوى الملاعب والمدارس والمؤسسات، وحتى بين أفراد الأسرة الواحدة التي باتت تلعب دورا سلبيا في تغذية الصراعات النفسية، ولا تقوم بدورها الكافي في إرشاد الأبناء.
وأشارت الدراسات إلى بروز مؤشرات لتنامي ظاهرة العنف في مختلف الميادين، وخلل واضح في مستوى التكيّف النفسي والاجتماعي لدى الأفراد، من خلال دلائل على التنافر الحاصل بين الأفراد وعدم تقبل الرأي الآخر بسهولة.
وأكد المتحدث على وجود ندرة كبيرة بالنسبة للجان المساعدة الاجتماعية التي تقتصر مهامها على بعض المؤسسات العمومية والمدارس على وجه الخصوص، حيث يتم توفير مستشار توجيه واحد على مستوى 10 مدارس، ونادرا ما تجد المؤسسات العمومية والخاصة تتكفل بتوظيف مرشدين نفسانيين، وهو ما سيؤدي إلى تفسخ العلاقات الاجتماعية وانتشار العنف.
وفي إشارة إلى دور العلاقات الأسرية المتينة في إذابة الصراعات النفسية المنتشرة في المجتمع، اقترح الدكتور استحداث دفتر خاص بالصحة النفسية للأزواج المقبلين على الزواج، لمساعدتهم على تجنب الخلاف وتخطي الصعوبات والاستقرار، في ظل غياب الأسرة الممتدة التي كانت تمارس دور المرشد الاجتماعي.
سوء فهم للواقع النفسي
وتعدّ المشاكل النفسية والاجتماعية السائدة التي تترجم في شكل صراعات، في الآونة الأخيرة، المتسبّب الرئيسي في حالة ''اللامعيارية''، حسب الدكتور حدار عبد العزيز، هذه الأخيرة التي تبرز ضعف قدرة القيم النظرية على الجمع بين أفراد المجتمع، وضعف إسقاطات القيم النظرية في الواقع، حيث أصبح لكل فرد نسقه القيمي و''كل شخص يفتي لنفسه''. هذه الحالة أنتجت، وفق محدثنا، حالات الطلاق والإجرام والانتحار... وغيرها من الأزمات الاجتماعية.
واعتبر البرامج الإرشادية الموجهة للطفل ما قبل التمدرس ضعيفة، رغم أنها تشكل الفضاء الأنسب لتنمية الصحة الاجتماعية وتنمية القدرات لإدارة الصراعات النفسية، على اعتبار أنها المرحلة التي قد يتعرّض فيها الطفل لصراعات نفسية واجتماعية داخل النسق الأسري، في حين أظهرت النظريات الحالية للعلاج فشلها في المجال التطبيقي، بعد تركيزهم على جانب واحد من الشخصية وإهمال الأخرى.
ومما يدعو للأسف، وفق الدكتور حدّار، غياب التنسيق بين السلطات العمومية وعلماء النفس والاجتماع، لفهم الواقع السوسيولوجي للمجتمع الذي يمرّ بفترة انتقالية واسعة منذ بداية الثمانينيات، لن يخرج منها إلا بعد الاستتباب الكلي للأمن وبروز نخبة مثقفة، سياسيا وفكريا ودينيا، فاعلة وقادرة على تجسيد القيم النظرية في الواقع. وأشار إلى أن الانعزال الحاصل بين علماء النفس والاجتماع والاقتصاد، غيّب الدراسات المشتركة لفهم مثل هذه الظواهر المعقّدة. وفي إطار الصراعات المؤسساتية، دعا المختصون المسؤولين إلى الاهتمام بمشاكل العمال قبل تحوّلها إلى عوامل تخلّ بالمؤسسات، من خلال وضع ميكانيزمات اتصال واضحة بين الأفراد، والتفاوض لتجنيب المؤسسة صراعات قد تكون عقيمة، بإشراك الجميع في اتخاذ القرارات الحاسمة بالأغلبية، حيث ذهب الدكتور إبراهيم توهامي إلى أن الكثير من المؤسسات العمومية مازالت تهمّش المورد البشري، ما يجعلها تعاني من تذبذب في مستوى مردوديتها وتعرف مشاحنات وصراعات نفسية واجتماعية، يتم التغافل عنها وتركها، بقصد أو دون قصد، وهو الأمر الذي أضرّ بالمسار التنموي في البلاد، وحال دون تحقيق الأهداف التنظيمية والاستراتيجية المتوقع بلوغها، ورهن الكثير من تطلعاتها لاكتساح السوق العالمية، في إطار استمرار هذه الحالة المرضية.
سوء استغلال السلطة
وتثار الصراعات في المؤسسات الجزائرية، وفق توهامي، بسبب التعسف في استعمال السلطة الممنوحة والتشدّد في استعمال أساليب الرقابة الإدارية، مع تطبيق العقوبات الإدارية المجحفة على بعضها وحرمانهم من أبسط حقوقهم، في المنح والعلاوات والأجور والتربصات. واعتبر الظاهرة ''بسيكو ـ سوسيولوجية''، تتطلب تشخيص أسبابها ومعالجتها في أسرع وقت.
وبالنسبة للمؤسسات الصحية، أوضح الأستاذ بجامعة سعد دحلب بالبليدة، ميهوبي فوزي، أن المؤسسات الصحية ليست في غنى، كونها تعاني من افتقار لـ''الأنسنة'' في الخدمات المقدّمة من طرف الطاقم الطبي، ورداءة الخدمات المقدّمة وسوء المعاملة. وأشار إلى أن تقرير اللجنة الاستشارية لحقوق الإنسان المقدّم إلى رئيس الجمهورية، يؤكد هذه الوضعية المزرية التي تستدعي استحداث آليات ناجعة لتسيير الصراعات النفسية والاجتماعية في المؤسسات الصحية، والتخفيف من معاناة الفئات المعنية بها. وتأتي التعليمة الوزارية رقم 18 سنة 2002، حسبه، لتعترف بمعاناة مهنيي الصحة من الاحتراق النفسي، وتؤكد أهمية الحرص على معالجة الوضع القائم، دون أن تؤخذ بشكل جدي من طرف القائمين على القطاع، في ظل وجود أزيد من 8 دراسات تؤكد إصابة الأطباء والممرضين بضغط مهني واحتراق نفسي، على غرار دراسات دليلة عيطور في 1997، ودراسة ليندة موساوي في 2001، ودراسة رضا مسعودي في 2003، ودراسة صبرينة غربي في .2012