القصة معروفة، وتنسبها بعض المصادر إلى سيدنا سليمان عليه السلام، حين نظر فى دعوى امرأتين متنازعتين على طفل، ادعت كلتاهما أن الطفل طفلها. فما كان من سيدنا سليمان الحكيم إلا أن اقترح شق الطفل إلى قسمين متماثلين، ولتأخذ كل واحدة قسما.
وما كاد سيدنا سليمان ينهى اقتراحه، حتى أصاب إحدى المرأتين ذعر هائل أفقدها القدرة على النطق، أما غريمتها فقد سارعت قائلة إنها قبلت القسمة. وبعدما أعطى سيدنا سليمان الفرصة للمرأة الهلعة لكى تهدأ وتقدر على الكلام، كان أول ما نطقت به هو تنازلها عن الطفل كله لغريمتها، فهى لا تقبل بتقسيمه. وكان واضحا أنها هى الأم الحقيقية للطفل، فحكم لها سيدنا سليمان بابنها كله.
هذه القصة اتخذ منها رائد علم النفس الاجتماعى البارز «إريك فروم» نموذجا دالا على طرفى نوعين من السلوك أو النزوع النفسى، أولهما نكروفيلى تمثله المرأة الكذوب التى تطلعت لامتلاك الطفل ولو بتقطيعه، وثانيهما بيوفيلى وتمثله الأم الحقيقية التى داست على قلبها مانحة ابنها لغريمتها لأنها لا تقبل المساس به، وفى الترجمة الحرفية لأصل المصطلح، تعنى النكروفيلية عشق الجثث أو الموت، بينما البيوفيلية هى عشق الأحياء أو الحياة.
فيما يخص النكروفيليا، فإن إيريك فروم، فى مُؤلَّفه الموسوعى الفذ «تشريح التدميرية البشرية» «THE ANATOMY OF HUMAN DESTRUCTIVENESS»، وكعادته العبقرية، وسَّع من دلالات المصطلح حتى تجاوز كثيرا بدايته الحرفية المحدودة، فصارت النكروفيليا تشير إلى أشكال متعددة من السلوكيات النفسية التدميرية. فبرغم انطلاقه من نظرية عالم النفس الشهير «سيجموند فرويد» عن «غريزتى الحياة والموت»، إلا أن إريك فروم من خلال ملاحظاته المستقاة من المعطيات السريرية لمرضاه، توصل إلى أن «المجاهدة من أجل الحياة، والمُنازَعة من أجل التدمير»، هما القوتان الأساسيتان المتجابهتان داخل النفس الإنسانية. وفى تعريف موسّع، قال إريك فروم إن النكروفيليا».
هى انجذاب عاطفى تجاه كل ما هو ميت، ومتفسخ، وسقيم، فهى الشغف بتحويل ما هو حى إلى غير حى، وبالتدمير من أجل التدمير، والاهتمام الحصرى بما هو آلى خالص، وهى الشغف بتفكيك كل البِنى الحية».
قبل أن يوسع إريك فروم دلالة مصطلح النكروفيليا، كانت الدلالة فظيعة ومقصورة على نوعين من الظواهر النفسية المرضية متطرفة الشذوذ وبالغتى الندرة بين يدى الأطباء النفسيين وعلماء النفس، وهما: النكروفيليا الجنسية المرتبطة باشتهاء الجثث، والنكروفيليا غير الجنسية المتعلقة باستهواء الجثث، تحديقا ولمسا وتقطيعا بتلذُّذَ! أما عند فروم، فقد أصبحت النكروفيليا إطارا عاما لانحراف شائع هو الاقتناع بأن السبيل الوحيد لحل أية مشكلة أو صراع هو بالقوة والعنف، دون أن يكون الأمر متطلبا لذلك، لأن القوة والعنف فى هذا الانحراف لا يكونان إلا تدميريين، لتحويل الحى إلى ميت، والمتماسك إلى مفكك.. أو هشيم، أو أنقاض.
النكروفيلى عندما يواجَه عقدة لا يرى سوى قطعها، لا حلها بأناة ولا تفكيكها بصبر. والنكروفيليون عموما لا جواب لهم على مشاكل الحياة إلا التدمير، لا الجهد التوافقى، أو التشاركى، أو البنَّاء، فهم لا يرون هذه الحلول لأنهم لا يعرفون إلا الخيارات التدميرية، وينكرون حقيقة أن القوة التدميرية فاشلة على المدى الطويل، لأنهم يعملون على المدى الأقصر عادة، فهم محكومون بهاجس الرغبة فى التملك لا الحب، كما فى حالة المرأة الكذوب التى قبلت شق الطفل لتحصل على نصفه! وهم ماضويون، لأن الماضى لديهم هو الجدير بأن يُعاش، لا الحاضر، ولا المستقبل، فما كان، أى ما هو ميت زمانيا ومكانيا، بمقاييس الحياة المعيشة، يحكم حياتهم ويتحكم فيها. ومن ثم يصير الماضى مقدسا مهما كان غير ملائم، بينما الجديد بلا قيمة، والتغيير جريمة. فما علاقة ذلك بما نحن فيه، فى مصر.. الآن؟!
لو شئنا مثالا تجسيديا معادلا لقضية المرأتين المتنازعتين على أمومة الطفل، حيث يمثل الطفل لغير أمه: المِلكية، الحيازة، السطوة، بل تعزيز القوة، أى السلطة، فإننا سنكتشف على الفور توجهات المتصارعين عليها بهدف الملكية، وبوسائل القوة، فكأننا إزاء أطراف عديدة تطالب بملكية الطفل أو شىء منه، ولو بتقطيعه، وبعبارة مباشرة: طلب السلطة، أو أكبر نصيب من كعكتها، ولو بتمزيق الدولة وشق صفوف الأمة. وليس عسيرا علينا أن ننزع أقنعة مثل الصراع على بداهة الدستور الجامع أو أولوية الانتخابات العابرة للفترة الانتقالية، لنكتشف تحتها مشتركا واحدا هو الرغبة فى حيازة القوة/ السلطة، أو الخوف من فقد القوة / السلطة. وكأن السلطة غاية لمطامع التمكين والاحتكار وليست وسيلة لمطامح الارتقاء والتشارك. ولعل بعض الشعارات الفالتة من هذا الطرف أو ذاك توضح إلى أى مدى تتوارى النكروفيلية بنوازعها التدميرية خلف تصريحات أو هتافات من مثل الاستعداد لتقديم شهداء، أو التهديد بالتصعيد، أو الضغط بالمليونيات، أو تكوين حكومة ميدان وفرضها على الأمة!
هذه الملامح النكروفيلية المموهة على مستوى النخب السياسية والرموز والتكتلات الاجتماعية والحكم أيضا، يناظرها على مستوى العامة مظاهر أوضح وأفظع للنكروفيلية البدائية الوحشية الصريحة، كما فى عمليات القتل بالسلاح الأبيض والأسود، والاحتراب بالبنادق الآلية لأتفه الأسباب بين قرى وقرى، وعائلات وعائلات، وضواحى ومدن، فهى نكروفيليات جماعية لعل من أفظع مظاهرها حوادث الانتقام من عربدة بعض البلطجية بقتلهم وتقطيع أوصالهم والاحتفال الجماهيرى فى الطواف بجثثهم المُمثَّل بها على رءوس الأشهاد.. المبتهجين بالنصر!
لقد قرأت هذا الأسبوع رواية صغيرة بعنوان «نكروفيليا» بقلم كاتبة لا أعرفها ولم أقرأ لها شيئا من قبل اسمها «شيرين هنائى»، والرواية برغم افتقارها إلى خبرة الكتابة المتمكنة، فإنها تنطوى على محتوى درامى متماسك، إضافة لأساس علمى أرجح معه أن الكاتبة إما طبيبة نفسية أو دارسة لعلم النفس المرضى أو مهتمة به، فقد كانت دقيقة فى حدود المعرفة الأولية بالنكروفيليا، وإن كانت قد وقفت بهذه المعرفة عند حدودها الضيقة، ولم تذهب بها بعيدا إلى حيث ذهب إيريك فروم، لكن الإطار الدرامى لروايتها قد يكون مُبّررا مقبولا فى ذلك.
الرواية تحكى عن طبيب نفسى شاب، ميسور ووسيم، يلتقط صبية صغيرة فقيرة مصابة بفقد الشهية العصبى لجعلها حالة بحثية فى رسالته للحصول على الماجستير، لكنه يُفاجَأ بأن تحت سطح هذه الحالة يكمن محتوى نكروفيلى متوحش يبرز بشكل مُطَّرِد يربك الطبيب ويدمر حياته، بل يجعل منه فى النهاية ضحية عملية قتل واشتهاء بشعة وبالغة الشذوذ من مريضته. وبرغم كل ملاحظاتى الفنية على الرواية، فإنها تحتوى على مادة جيدة لفيلم رعب يجمد الأنفاس من زاوية أحسبها غير مطروقة لدينا.
وقد التقطتُ الرواية وقرأتها متقافزا فوق الهنات الفنية، لأن ملاحظتى على بروز النكروفيليا فى الصراعات السياسية والاجتماعية فى مصر الآن لم يكف عن إثارة فضولى وخشيتى منذ شهور.
فى رواية الكاتبة «شيرين هنائى» مخطط سيناريو لفيلم رعب ناجح، لكن فى تلافيف ما يحدث فى مصر الآن، وما يتبدى فى المجابهات والشعارات والضغوطات والتناحرات والتطلعات إلى السلطة، تنمو بذور لعرض تدميرى شامل ومخيف، تبرز فيه علامات لا يخطئها كل من يعرف خبايا النكروفيليا بدلالاتها الواسعة التى أومأتُ إليها مُتكئا على معرفة إريك فروم الموسوعية بالموضوع الذى هو حجته العالمية، فثمة صيحات تبدو عفوية من أطياف مختلفة وفرقاء متنوعين، مثل «سندفنهم»، و«نموت نموت ويحيا كذا» و«كذا كذا حتى الموت»، تمثل نماذج واضحة وصادمة على ما يختبئ تحت السطح من جبل النكروفيليا الغاطس، جبل البحث عن الخلاص من أى مأزق بالتدمير، بالقوة، بتفسيخ الحى، وتفكيك المتماسك، بالموت، أو الموات. ويؤكد تلك الرؤية ما نلاحظه من غياب موحش للتوجه الصحى النقيض فى صراخ كل المتصارعين والمتنافسين والمتجادلين على القوة / السلطة.. غياب «البيوفيليا» التى تعنى حب الحياة، والتطلع إلى المستقبل، والطموح إلى النهضة.
وقد يلاحظ القراء الأعزاء أننى متحفظ كثيرا فى تسمية الأطراف المنخرطة فى هذا العرض المنذر بالتدميرية، بالنكروفيلية، وهى أطراف تشمل كل الفرقاء فى التعصبات السياسية والاجتماعية والعقائدية والطائفية وفى مواقع الحكم. وتحفظى ليس تأدبا ولا خشية ولا مجاملة لأحد، لكنه محاولة لتنبيه غير المنتبه، وترك منفذ لخروج ونجاة المتورطين إن شاءوا وشاءت ضمائرهم، بالخروج من ظلام النكروفيليا إلى نور البيوفيليا، إلى حب الحياة، الذى لا يكون حبا حقيقيا «مُنتِجا»، على حد تعبير إيريك فروم نفسه فى كتابه الجميل «فن الحب»، إلا بتعميم الحب وإسباغه على الغير، على الناس والكائنات والموجودات كلها، فهى جميعا مثلنا، من خلق الله واهب الحياة، وبمشيئته وإذنه ستنتصر فى مصر الحياة. يا رب الحياة.