الفرح.. ثقافة تتجلى في مظاهر عدة

نتوق إليه. وعنه نبحث هنا وهناك، في كل زمان ومكان، فهو حلم الإنسان وأمنية القلب والوجدان، ونبقى ننبش عنه في خبايا النفس وثنايا اللاشعور، فالقلب إليه يحتاج لتنجلي عن الهموم، والنفس إليه تشتاق لتستريح بين الضلوع. إنه الفرْح ، كل ما نحتاج إليه، والذي يمثل القيمة التي لا تقدر بمال، فالشعور به لا يحتاج قرارا، إذ انه حالة تغمر الإنسان، وينعم الله عليه بها، فبدايته الرضا والامتثال، حتى يترسخ ويكون في متناول كل منا، عندما تضيق الحال.

اصبح شعورنا بالفرح شحيحاً، وسط عالم ينفض الأفراح، ولكن بكل الإصرار نستحضره، نخرجه من تحت عباءة الأحزان والانكسارات، فله الحضور الأقوى، والخاص فهو يزاحم الأحزان لنفرح ويطل إطلالته الشامخة، وربما من هنا يتكلل بفلسفة الفلاسفة، وبدرجة المثقفين في قوائمهم الفكرية، لأنه لا فرح دون أحزان، ولا انفراجة دون ضيق، ولا ابتسام إلا وسبقته دموع.

ارتباط

ليس الحديث عن الفرح وعلاقته بالثقافة هو تقييد لهذه القيمة الفطرية في الإنسان، وإنما لترشيدها، خاصة وإن واقع «كوكبنا»، الذي يشتمل على العالم كله، يحتاج منا وقفة لنصد كل ما يصدر لنا ولغيرنا من كوارث وحروب وفساد وقرارات عشوائية ـــ نصد ذلك كله بما يعرف باسم ثقافة الفرح، بمعنى عدم الاستسلام لواقع شديد الجفاء وشديد الضغط على الإنسان، ولكن التمكن من القدرة وتوظيف العقل وإتاحة مكان في القلب لتندرج المشاعر جميعها في معزوفة هادئة معها يأخذ الإنسان برهة من واقعة، والثقافة هنا أن يكون الفرح مرشداً هادئاً يخرج بوعي واستمتاع بمفرداته، وإذا غابت ثقافة الشعوب والأفراد، خرجت دلالات استشعار الفرح عن معناها، وأصبحت عشوائية، غوغائية، لا تقف عند أعتاب الآخرين بالاحترام المرجو منها، فمثلاً ــ وليس على سبيل الحصر ــ ينبغي ألا نبالغ في الفرح حتى لا نصور للآخر بأنه مفتعل ولا يستند لمصداقية وجدانية حقيقية، وألا نعلنه على الملأ، إذا ما كان هناك ظرف من ظروف الحزن والأسى مثل فقد عزيز عند الآخر، ففي هذه الظروف يخرج الفرح عن معناه، ويكون غير مرشد بثقافة يحتاجها لتضعه في مكانه الصحيح. والرضا والاقتناع هما بدايات أي فرح، فبدونهما يكون الإنسان ناقماً لا مكان له وسط الأفراح، وغاضباً متحدياً وناقداً، وهذه القيم لا تجتمع مع الفرح بمكان.

قوة دافعة للابداع

تلعب الثقافة والترشيد دوراً أساسياً في سلوكياتنا، حتى العفوي منها، فالفرح ينبغي أن يكون متواصلاً وجزءاً من سلوك الإنسان، فالشخص الذي لا يتمكن من الفرح ولو النسبي منه، يكون خارجاً عن المألوف، وتصنف شخصيته في علم النفس بـــ «الاغتراب» و«السوداوية»، وأيضاً «الاكتئابية»، فالقدرة على الفرح وأيضاً المشاركة فيه، من سمات الشخصيات المتزنة السوية، تتفاعل بداخلها كل المشاعر الإنسانية، بالدرجة ذاتها تقريباً. وثقافة الفرح تأخذ صاحبها إلى الأماكن الإبداع فكل مبدع بداخله قوى دافعة، هي الأمل في الوصول لقمة الإبداع، أو التوصل لنظريات تخدم البشرية في كل المجالات، ويغلف ذلك كله الشعور بالبهجة واستشعار الفرح. ان القدرة على الفرح لدى الإنسان تعكس القدرة ذاتها على الخروج من الأزمات وإدارة تجاوزها، وأيضاً البعد عنها، والفرح هو المرادف لاستمرارية الحياة والإنسان معاً، ووجود العلاقة المتوازنة فيما بينهما. وربما نواجه العديد من المشاكل في أفراحنا واحتفالياتنا، التي ترتكز على مفهوم الفرح، وذلك لغياب ثقافة الفرح نفسها وانفصالها عن قيمته الوجدانية، وثقافة الفرح هذه لا تكون بين ليلة وضحاها، وإنما هي تترسخ في المجتمعات الحضارية ذات الفكر الواعي؛ وربما تختلف نوعية ودرجة الثقافة من شعب إلى آ خر، ولكنها في النهاية تدور القيم والمشاعر الإنسانية في إطارها وفلكها، وإلاّ خرج الكون عما هو عليه وسادت الهمجية والفوضى. والأمل والتطلع، إلى الأفضل الدافعان للفرح، فبدونهما نتحول وكأننا أبطال لإحدى المسرحيات العبثية لصموئيل بيكيت، حيث لا معنى فيها للزمن، وما علينا سوى التحرك في مساحة دنيوية جوفاء من كل المعاني المبهجة، فقط لانتظار المجهول الذي يقبل التأويل. والفرح قيمة على المستوى الشخصي والعام، وربما في أحيان كثيرة تتوحد الأمور الشخصية مع كل ما هو عام ومطلق، فعلى الصعيد الشخصي يولد الفرح مع الإنسان وأيضاً يتوارثه ويكتسبه في مشوار حياته، فيفرح بنجاحاته وتطلعاته وتحقيق أحلامه، ويفرح لأنه قانع وراض. والمستوى الأكثر عموما هو المستوى العام، فالشعوب لها فرحتها الكبرى في الاستقلال والسيادة، وفرحتها برقيها وتحقيق انجازاتها وكسر اغلال طغاتها وتجاوز هزائمها، والخروج من المحن، والاستمتاع بالسلام والعدل والخير والجمال. وللفرح مظاهر متعددة، منها القدرة على الضحك، والمشاركة في أفراح الغير، والفرحة الكبرى في أي أسرة فرحة نجاح أبنائها، وفرحة ليالي الزفاف وإقامة الأفراح «والليالي الملاح»، والفرحة بالعائدين للأوطان بعد طول غياب، والفرحة بضيف صغير يزيد الأسرة عدداً وهو المولود الجديد، فتقام له الزغاريد في «السبوع» ويرتفع الغناء وسط الشموع والأكلات التقليدية كالمغات والحلويات، وإطلاق الأغاني الشعبية وسط دق الدفوف وانطلاق الموسيقى، وخير تجسيد لهذه الفرحة فيلما «أم العروسة»، و«الحفيد» وهما يعكسان بجدارة وصدق المجتمع المصري، وخاصة الطبقة المتوسطة منه.

(القفشات الكوميدية)

تتعدد مظاهر الفرح وتكثر، فلكل شعب خصوصيته وبصمته في الفرح، وإطلاق الزغاريد والأغاني الفلكلورية بصمة على أفراح الشعب المصري الذي يطلق النكات التي تميز بها سواء في الأفراح أو المآسي، فهو شعب يجيد الضحك «والقفشات الكوميدية». وفرحة المناسبات الدينية فرحة كبرى للصغار وللكبار، وشهر رمضان والأعياد قمة الفرح بهذه المناسبات، فرح بنكهة الحلويات والأكلات العربية الأصيلة. وفرحة الأجواء الروحانية التي تطمئن لها النفس. والمهرجانات رمز وظاهرة من ظواهر الفرح.

دبي.. نموذج الفرح

برعت دبي في إطلاق المهرجانات التي تختزل وتلخص اقوى وادل المعاني الجوهرية للفرح، فمهرجان مفاجآت الصيف يخاطب الصغار والكبار معاً، ويصاحبهم «مدهش» الذي يزيد من فرح الصغار وسط ألعاب متعددة وفعاليات، وهي انطلقت من تحت عباءة الفرح للجميع، بالإضافة لمهرجان دبي للتسوق، الذي يضفي البهجة على كل من له هواية التسوق والاقتناء، اذ ينطلق وسط احتفالية كبيرة من الفرح والترويج، ويحضره السياح من كل مكان في العالم، ويشاركهم كبار الطهاة المحليين والعالميين في تقديم كل ما لذ وطاب من الأطعمة التي هي في حد ذاتها نوع من الاستمتاع الإنساني، الذي يفرح الإنسان ويحدث لديه الإشباع الحسي والمعنوي. وهناك في عالم الطهي نظرية معروفة ترتكز في أساسها على نفسية الطاهي، فإذا كان فرحاً وفي حالة نفسية مرتفعة ومزاج عال فإنه يبدع أجمل الأطعمة وأكثرها طيباً في المذاق، وربما من هنا جاء المثل المصري الشهير «الأكل نَفَسْ»، بمعنى أنه إذا كانت ربة البيت مرتاحة نفسياً، فإنها تبدع في طهيها.

ونجد ان مهرجانات الحصاد وارتفاع منسوب النيل في مصر الفرعونية، تعبير عن فرحة القدماء المصريين بما أحرزوه من خير للوادي، فكانت تنطلق عربات الفراعنة التي تجرها الخيل، ويركب فيها الحكمة والكهنة وممثلون عن كل فئة من فئات الشعب وسط أغان وقرع للطبول والدفوف، وتظاهرة الفرح هذه سجلت على أعمدة المعابر وفوق المسلات الفرعونية العملاقة، وربما من هنا مازالت مصر في معظم محافظاتها، تحتفل بأيام الحصاد للمحاصيل التي تدر دخلاً كبيراً على البلاد، مثل القطن الأجود عالميا، والمعروف بالقطن «طويل التيلة»، وتغنت كوكب الشرق أم كلثوم بأغنية للحصاد.

كما ان مهرجانات الزهور تجوب شوارع وسط أوروبا، وخاصة هولندا، وهي من مظاهر الفرح الجماعي، فتجوب الشوارع بعربات عملاقة مكسوة بالزهور الطبيعية، مع ترديد الأغاني ودق الأجراس، تيمنا بزيادة المحصول في كل عام. وكذلك هناك التظاهرات التي تعقب مباريات كرة القدم، سواء في العالم العربي أو الغربي، على حدٍ سواء، وما هي إلاّ تظاهرات فرح تجوب الشوارع إعلانا بالفوز، وهو ما يعرف في الفلسفة بـــ «الفرح الجماعي المنساب»، أي المستمر دون توقف ولا يكترث بقوانين المرور ولا حلول الليل، وهذه النوعية من الفرح الجماعي هي المرادف العكسي للإحباطات الجماعية حول العالم، بسبب العديد من الانكسارات، وهذه النوعية من الفرح تعرف كذلك بالفرح الذي يجدد نفسه، بمعنى أنه كامن تحت عباءة الحزن، وفجأة ينفجر ويتجدد، وهو نوع من الفرح الهستيري، حسب ما يطلق عليه علماء النفس والسلوكيات، وهو فرح غابت عنه «ثقافة الفرح»، وترك للعشوائية في المشاعر الإنسانية. وكذلك هناك فرح الحب بكل معانيه الواسعة، ومنها الحب الرومانسي، فمعها جميعها تنتاب الإنسان حالة من الفرح الدائم المرتقب، وكأن الإنسان يتمسك به حتى لا يفقد حالته المزاجية الخاصة، وهذه النوعية من الحب، يظل الفرح مواكباً لها ومعها، ويعرف باسم «الفرح الدائم»، لا يهجر الإنسان إلاّ إذا زالت أسباب الفرح، مثل انتهاء قصة الحب، سواء الرومانسي أو الحب بأوسع معانيه، مثل غياب الإنسان عن وطنه الذي يستشعر حبه دائماً حتى في البعاد.

.. في الأغاني

تسود معاني الفرح في معظم الأغاني على المستويين العربي والعالمي، ونتذكر منها واحدة من أمتع أغاني أم كلثوم التي تشدو بها في مناسبات الأعياد الدينية «ياليلة العيد آنستينا وجددت الفرح فينا».

والفرح والنجاح وجهان لعملة واحدة، وغنى العندليب الأسمر «حليم» و«حياة قلبي وأفراحه ده مافيش فرحان في الدنيا أد الفرحان بنجاحه».

والفرح والضحك يكمل أحدهما الآخر، ونجد انه غنى هاني شاكر «عليّ الضحكايا عليّ.. شمسك بتنور ظلي». وكذا بكل المعاني الحلوّة، يغني فريد الأطرش: «ياشمس قلبي وظله.. يا فرحة عمري كله». نعم الفرح والحب والنجاح، وأيضاً التمني والأمل، جميعها مشاعر إنسانية معها يحلق الإنسان في العالم في فرح وخيلاء. ولا تخلو الأغاني الأجنبية من كلمات الفرح، ومن أشهرها «جيسو» للموسيقي لجوهان سباستيان باخ، وهي من أشهر أعمال (الكونشرتو) لهذا الفنان العظيم. وأيضا «الفرح» أغنية «لتيدي باندرجراس»، كذلك «الفرح» في أغنية لويتني هيوستن.

..في الادب

للفرح مكانة في الأدب العالمي، فهناك «الفرح» في رواية لمارشاهانت، التي صدرت في العالم 1990، وغيرها الكثير. كما ان الأماكن أيضاً تحمل اسماء الفرح، ومنها: «الفرح» أو «joy» وهو اسم شارع بولاية النيو الأميركية، و«الفرح» (joy rouge ) شارع في ولاية نونافو بكندا. ونجد ان الفن السابع والفرح لهما معاً مشوار طويل؛ وإحدى محطاتها في فيلم «الفرح»، وهو فيلم مصري حديث يدرج تحت مصنفات أفلام العشوائيات، وهو من تلك الموجة التي اجتاحت السينما المصرية، أخيرا، ويعد من الأفلام التي لاقت انتقادات كثيرة من قبل النقاد. وهناك فيلم «فرحان ملازم آدم»، وهو يعكس اسم البطل الذي يلعب دوره الفنان فتحي عبدالوهاب، القادم من النوبة، وله دلالة الفرحة بإنجاب الولد في الأسرة لذلك سمي فرحان، وهو أيضاً من أفلام العشوائيات. وكذلك فيلم «هابي هوم» لجيري لويس، الذي انتج في الستينيات من القرن الفائت. وفيلم «الساحر» لمحمود عبدالعزيز، الذي يحكي ويعكس الفرح، حيث يدل عليه اسم محمود عبدالعزيز في فيلم «منصور بهجة».

العلاج بالفرح

نظرية الفرح والتفاؤل المصاحب له، إحدى النظريات التي يقوم عليها علم النفس الحديث في علاج العديد من الأمراض، كالاكتئاب والانطواء والخوف المرضي (الرهاب)، ويبدأ الطبيب بطرق مدروسة يضع المريض داخل مناخ يميل للتفاؤل والفرح عن طريق توظيف مؤثرات موسيقية معينة تؤثر في الدماغ، وعطور طبيعية لزهور تساعد على استعادة الفرح، كما أثبتت الدراسات النفسية ذلك، جنباً إلى جنب مع التركيز على الإضاءة غير المباشرة وأخرى مباشرة مسلطة بطرق علمية على وجه المريض، وصور لملامح تعكس الابتسامة المريحة، التي تنبسط معها أسارير المريض دون أن يدري، فيستشعر الراحة والفرح.

قالوا عن الفرح

مبحث الفرح واستشعاره من أكثر المباحث الإنسانية التي اهتم بها العديد من الفلاسفة والكتاب، وتقول هيلين كيللر: (للفرح أهمية كبيرة في حياة كل منا، ولكن الفرح وحده لا يصنع الإنسان الذي لابد أن يقطع مشواراً طويلاً في التعليم والشجاعة والثقافة، فالفرح جزء من مسيرة الإنسان وليست كلها). وأما جون روكفلر فهو يعتقد أنه لا يمكن الاستمتاع بالحياة دون فرح. وأما الشاعر جون كتيس فيقول بمزيد من التفاؤل: (منظومة الجمال ترتكز على مشاعر الفرح الدائم).

أما جبران خليل جبران، فيعتقد أننا نختار أفراحنا وآلامنا، قبل أن نعايشها.

منهج حياة

الدعوة للفرح ليست مطلقة أفلاطونية المعنى، وانما هي تعبير عن منهج حياة متعدد الجوانب، الجانب الأكبر منه لابد وأن يكون مفرحاً هادئاً متفائلاً، لأن هذه القيم جميعها ـــ كما يعتقد صلاح جاهين ـــ ما هي الاّ منظومة لحياة الإنسان وتوازناته المختلفة، وهي التي تشكل المجمل من ردود أفعاله تجاه الآخر، فالإبداع بدايته تفاؤل ونهايته فرح، ولكن الإبداع ليس عملاً في المطلق، وإنما هو الإبداع الكائن في كل تصرفات الإنسان، وهو ما يسميه الغرب «بالأناقة أو الشياكة»، فهي ليست مجرد شكل خارجي، وإنما جوهر الإنسان ومنهج لحياته.

وإذا كان الفرح نهج حياة، فلابد لكل منا ــ كما يقول إحسان عبدالقدوس ــ في روايته الشهيرة «أنا حرة» لابد وأن يكون له ثقافة يعمل بداخلها وفي إطارها، ولا تتخطى خصوصيته الآخرين، فإذا غابت ثقافة الفرح انقلب للضد فجأة، وأصبح تصرفاً عشوائياً من حيث المظهر والجوهر.

Leave a Reply