«الغرابة» طريق الإبداع وبديل الجنون

القاهرة ـــــــ صبحي موسى
يعد كتاب «الغرابة ـ المفهوم وتجلياته في الآداب»، لأستاذ علم نفس الأدب، ووزير الثقافة المصري د. شاكر عبد الحميد، الصادر مؤخراً عن سلسلة عالم المعرفة بالكويت، والحاصل على جائزة الشيخ زايد، واحدا من الأعمال التي يجب التوقف كثيراً أمامها، باعتبارها تقدم لنا نموذجاً حديثاً لنظرية الأدب، التي ينبغي على النقاد العرب المشاركة فيها بقوة.
فـ«الغرابة» رغم قدمها النسبي في الكتابات العالمية فإنها كنظرية مازالت تتحسس إرساء قواعد مفاهيمها العديدة، وقد تجلت مقولاتها مع مقالة لفرويد، أفرد من خلالها مساحة كبيرة للحديث عن المألوف الذي يتحول إلى غير مألوف، وغير المألوف الذي يصبح مألوفاً.

في هذا الكتاب يتوقف عبد الحميد عند فكرة الغرابة بوصفها المثير للخوف والرعب والالتباس والشعور بفقد اليقين، معرفاً إياها بأنها نوع من الخيال، لكنه الخيال المرتبط بالخوف وانعدام الأمن وسيادة الوحشة والتوجس.
إنها باختصار خيال الوحشة وليس خيال التفاؤل.
وقد قسّم كتابه، الواقع في 350 صفحة من القطع المتوسط، إلى ستة فصول، جاء أولها عن معنى الغرابة، بينما رصد في الثاني الغرابة والأدب، تاريخ المصطلح وتطوره، موضحاً أن الغربة ظهرت في الأدب عبر عدة أبعاد وتيمات أساسية، تحدث عنها فرويد ومن قبله ينتش، وأولها القلق من فقدان شيء أو شخص عزيز، وثانيها ظاهرة القرين، وثالثها ما يسمى بالإحيائية، حيث تحوّل الميت إلى حي والحي إلى ميت، والجمع بين الموت والحياة في حالة واحدة.
سمات أساسية
وتعدُّ أبرز سمات الغرابة هي التكرار، ويتجلى ذلك في عودة الشيء نفسه، ولكن بشكل غريب، كأن يسير المرء في المدينة الواسعة ليفاجئ أن الطريق ينتهي كل مرة بممّر ضيق، وتعدّ فكرة الأشباح والأرواح وعودة الموتى وتذكر الأماكن المهجورة من أهم سمات الغرابة في الأدب.
وقد ذهب فرويد إلى أن الغرابة هي الجانب المظلم المخيف من الفن والأدب الذي أهملته النظرية الجمالية، وقد تبنى البلغاري توزفتان تودروف المفهوم نفسه الذي تبناه من قبل ينتش وفرويد، وقد لخص عبد الحميد نظرية تودروف عن الغرابة في خمس نقاط.
وإلى أنه في ضوء ما ذهبت إليه نظرية تودروف، فإنه يمكن تقسيم الأعمال العجائبية إلى العجيب المحض، حيث يتم فهم الأحداث بوصفها غريبة، لأنها تخدع عقلية الشخصية المحورية، وهذا النوع يتحقق في حكايات الجنيات وقصص الخيال العلمي وقصص الرومانس أو الفرسان، أما القسم الثاني فهو العجيب العجائبي، الذي يشتمل على قصص تقدم تأثيرات وأحداثاً لا يمكن تفسيرها في البداية، لكنها في نهاية العمل تتضح من خلال أسباب خارقة أو قوى ما وراء الطبيعة.
أما القسم الثالث فهو مزيج بين الغريب المحض والعجيب العجائبي، حيث لا نعرف مثلاً في قصة «اللولب الدوار» لهنري جيمس إن كانت الأشباح في النص ذات أصل ما وراء طبيعي أم أن ظهورها أمر طبيعي محض، لكن عبد الحميد يؤكد أنه من الصعوبة بمكان استخدام هذه المصطلحات المتقاربة في الأدب ككل، ولكن للمقارنة فقط بين أنواع من الأدب العجائبي.
الخوف من الظلام
في الفصل الثالث المسمى بـ«الغرابة وسرديات الخوف والظلام» يتوقف شاكر عبد الحميد أمام مصطلح يعتبره الاستخدام الأحدث فيما بعد فرويد وتودروف، وهو ما يعرف بالقوطية، وهو في الأصل طراز معماري ينتمي إلى نهاية القرون الوسطى، حيث تتجلى عمارته في شكل كتدرائي مخيف.
وقد ارتبط هذا المصطلح في الأدب إبان القرن التاسع عشر والقرن العشرين بعودة الأساطير الغريبة، كما في روايات «دكتور هيغل» لروبرت لويس ستيفنسون، و«صورة دوريان غراي» لأوسكار وايلد.
وهي أعمال بحسب عبد الحميد يرى الكثيرون أنها تحتوى على سلطة أو قوة رمزية تشبه في قوتها الأعمال القوطية الأولى أو الأصلية.
ويبدو أن أجواء المعمار القوطي تركت أثرها على طراز أحدث منها وهو المعمار الفكتوري، وقد أصبح النقاد يستخدمون الاسمين دلالة على أجواء الغرابة المقلقة والمخيفة إلى درجة السوداوية أو الكابوسية، وأصبح الأدب القوطي دلالة على حضور القوى الشريرة بتجلياتها الشبحية المخيفة، وهو ما أدى في النهاية إلى ظهور أدب الرعب والغرابة، هذا الذي احتفت به الأعمال السينمائية، خاصة مع ظهور موجات أفلام الفضاء والخيال العلمي والكائنات التي تجمع في تكوينها ما بين البشري والآلي وغيرها.
القلق النفسي
وقد ذهب عبد الحميد إلى أن الغرابة ترتبط بالدرجة الأولى بالخلل النفسي، فهي دائماً ما تظهر مع حالات المخاوف المرضية والعقلانية، حسبما رصدها فرويد.
فعندما تشعر الذات بالإجهاد تضعف الحدول لديها بين الواقع والمتخيل، بين الهواجس والحقائق، بين العادي والفنتازي، وتفتح الطريق لمسار يحاول المرء من خلاله التكيف مع حالة التنافر بين الذات والواقع، مما يجعله ينتج حالة من الغرابة في الفعل والسلوك.
بين المرض والفن
وذهب عبد الحميد إلى أن العزلة والآلية أو النمطية في الحياة والسلوك هي أهم مقومات إنتاج ما يمكن تسميته بالذهان، هذا المسبب بالدرجة الأولى لفعل الغرابة، رغم أنه في حقيقة الأمر يسعى لتقريب الفجوة بين الذات وما يساورها من خيالات وتصورات فنتاستكية عن العالم.
وقد اتضحت ملامحها في العديد من الأعمال الأدبية التي رصدها في الفصل الخامس المعنون «ازدواج الذات وانقسامها»، موضحاً أن فكرة الازدواج ليست أمراً غريباً على الطبيعة البشرية التي تمتلك ثنائيات من الأعضاء، بدءاً من الأذن وصولاً إلى المخ. فمن خلال هذه القناة يحدث الاتصال بين جزئي المخ، المكون من فصين متصلين عبر قنطرة أو حزمة ألياف عصبية تسمى الجسم الجاسئ، أو المقرن الأعظم، فمن خلال هذه القناة يحدث الاتصال بين قسمي المخ، كما يحدث التناغم بين ذاتين إحداهما واقعية والأخرى خيالية.
لكن الذات الخيالية كثيراً ما تجمح عن إمكانات الذات الواقعية في السيطرة عليها، مما يحدو بها إلى عالم الفن والأدب والإبداع عموماً.
لكن في حالات أخرى تذهب الذات المتخيلة بالذات الواقعية إلى عوالم الخوف والرعب والجنون، وهو ما اهتم به الأدباء الرومانتيكيون، محاولين فهم الطبيعة المزدوجة للمبدع، معتبرين أن الأدب والإبداع هما الوسيلتان اللتان تحميان صاحبها من الجنون.
الكاتب والمقامر
وذهب عبد الحميد إلى أن بعض الدراسات أشارت إلى أن الكتّاب الذين اهتموا بتجسيد الازدواج والتعدد في الشخصيات الأدبية، كانوا هم أنفسهم يعيشون حياة مزدوجة، من بينهم ستيفنسون الذي كان يدرس الفنون بالنهار ويعيش حياة صاخبة في الليل، ودستويفسكي الذي كان يعيش ككاتب في النهار ومقامر سكير في الليل، ووايلد الذي اشتهر بنزواته ومغامراته الليلية العديدة.
ويعد القرين واحدا من أهم الملامح التي ظهرت في الأدب كنموذج للغرابة، وهو ما تناوله عبد الحميد في الفصل الأخير من كتابه. والقرين هو الصورة المزدوجة للكاتب عن نفسه، وقد استخدمها العديد من الكتاب لنقد ما يعانونه من مخاوف في الواقع، فدستويفكسي تهكم من خلال قرينه على كل مظاهر النفاق والكذب والجمود المنتشرة في سان بطرسبيرغ، وانتقد هوغ من خلاله السلطة الدينية والسياسية في اسكتلندا إبان القرن الثامن عشر.
وقد تجلت فكرة القرين في العديد من الأعمال لدى الكتاب الكبار، من بينها قصة «وليم ويلسون» لإدجار ألن بو، والدكتور جيكل ومستر هايد لتسفنسون.
وبحسب علماء نفس، كلاكان وبير وغيرهما، فإن الازدواج يحدث بعد ضعف قناة الاتصال بين شقي المخ، مما يتيح للذات الخائفة الانفلات والجموح بالشق العقلاني تجاه ما هو غريب، أو ما عرف بالغرابة في الأدب وعلم النفس، لكن هذه الغرابة ليست نوعاً واحداً، كما أن مثيراتها لا يمكن حصرها في عامل واحد.

Leave a Reply