العنف المجتمعي وتصنيف الذات * أ.د سلطان المعاني

يؤكد أحمد زيد في كتابه “سيكولوجية العلاقات بين الجماعات قضايا في الهوية الاجتماعية وتصنيف الذات” أن التعاون أو توقع التعاون يحسن العلاقات بين الأفراد والجماعات ويؤدي لبناء الثقة.

ولعل هذا مدخل أدخل به إلى واقع الحال الصعب الذي بدأ يدخلنا في دائرة الابتعاد عن التعاون أو حتى حسن النية في هذا الاتجاه، وهو حال ساعد عليه الحراك المطالب بالإصلاح. فعلى أهمية المطالبة بالإصلاح وضرورته إلا أن إساءة استغلال فرصتنا الذهبية في الإصلاح ذهب بنا إلى التشرذم بدلا من توحيد الجهود ، وقد قادنا ذلك الى الاختلاف وربما الخصومة وفي مرات كثيرة التصارع، ولا اقصد بطبيعة الحال الحالة السياسية والامنية فقط، بل والحالة الاجتماعية التي باتت تعدد في غياب الأمن الاجتماعي، فإذا علمنا أن موجة الصراع والكراهية بين الجماعات والقوميات في العالم بدأت تتزايد في ظل أرمات اقتصادية طاحنة، وهو أمر خطير ينذر بحرب عالمية ثالثة، أو على أقل تقدير تصدير الدول الكبرى مشاكلها إلى دول العالم الثالث لحل مشاكلها على حسابها، وهو قانون طبيعي يقوم على البقاء للأقوى.

إننا مطالبون اليوم على مستوى الوطن والأقليم والعالم تبيان الأسباب الحقيقية لهذه الصراعات سواء السياسية والتاريخية أو الاجتماعية والنفسية, ولا ينبغي التوقف عند جانب دون آخر ولا عند حدود دولة دون أخرى، إن القرية العالمية مهدد بالانفجار إذ بلغت غالبية أنساق الحياة حواف انهيارها.

إن البحث في الأسباب النفسية- الاجتماعية التي تخص العلاقات بين الجماعات عمومًا والصراع بشكل خاص هو محور اهتمام علم النفس الاجتماعي الأوروبي، وقد ظهرت دراسات ونظريات في العلاقات بين الجماعات، واستطاعت أوروبا إلى حد بعيد التفوق على دول العالم الثالث في هذا المجال، وها نحن في الأردن نراوج أنفسنا في محاولة تشخيص الأسباب والظروف المؤدية الى المشاكل شبه اليومية من عنف مجتمعي وجامعي، ولم نتعد ذلك الى الوصول إلى حلول ناجعة مقنعة وعلمية في هذا الخصوص. ويؤكد أحمد ذبد أن اهتمام علم النفس الاجتماعي بالعلاقات بين الجماعات قد تأخر كثيرًا في بيئتنا العربية، ولعلنا لم نستفد لا من تجارب التاريخ العربي والإسلامي ولا من تجارب الأمم في التاريخ الحديث، فالمشكلات التي تبرز بين الفينة والأخرى تعود لأسباب سطحية وتتم معالجتها بالأسلوب التقليدي ذاته مما يجعل الحلول مؤقتة لا تتعدى ان تكون اسعافات أولية تخديرية لا تلبث أن تثور وتتفاقم من جديد.

تقوم نظرية تصنيف الذات على فكرة أساسية مفادها أن الهوية المشتركة تنكر الذات الفردية نتيجة لعوامل المسايرة الاجتماعية, وهي حالة تنسجم مع بعض بيئات المجتمع الأردني في الريف والبادية إن تلعب العشيرة الدور الأساسي في تحرير النسق الاجتماعي، والذي يقوى على باقي الانساق مما يجعلها تابعة له ورهن مواجه، فنفوذ ودوافع تشكل الجماعة, وبروز الهوية الاجتماعية وطبيعتها السيكولوجية, والأفكار النمطية ومفهوم الذات جزء من الوظيفة النفسية التي نصنف فيها ذواتنا ضمن الجماعة, وهي في الأردن العشيرة بالمقام الأول والتي تفوق علاقة التصنيف المؤسسي والوظيفي أو سواه.

إن هذه العوامل بمجملها تؤدي للتميز السيكولوجي بوجهيه الإيجابي والسلبي, فالتميز الإيجابي يعني أن الأفراد يحركهم دافع رغبتهم برؤية جماعتهم أفضل من الجماعات التي تشبهها، أما التميز السلبي فيعني أن الجماعات تميل إلى تقليل الفروق بين الجماعات, إلى الدرجة التي تبدو جماعتنا عندها مفضلة في نظرنا, وكلا الوجهين مجتمعان على مفهوم الإبداع الاجتماعي, فيناضل الأفراد من أجل الانتماء للجماعات ذات الهويات المميزة والإيجابية وهنا قد تسعى الجماعة الضعيفة إلى الاندماج في الجماعة المسيطرة الأمر الذي يتطلب تغييرًا ثقافيًا وسيكولوجيًا جذريًا لضمان نجاح هذه الإستراتيجية فسلوك الجماعات ليس انعكاسًا ميكانيكيًا لدوافع التميز الإيجابي بل يتأثر بمعتقدات الأفراد حول طبيعة العلاقات بين الجماعات خصوصًا تلك المتعلقة بالأوضاع الاجتماعية واستقرارها ومدى مشروعيتها.

وهذا خطير في مراميه وأبعاده في واقع الربيع العربي الذي لا يستند إلى مفاهيم ومرجعيات فكرية وأدبية واضحة، فلا ينكر أحد أن الحالة قامت على حسن النوايا والحماسة والاندفاع نحو وجوب التغيير ومحاربة الفساد، وقد التقت جميع قوى المعارضة على ذات الهدف، والأمر السلبي الذي نخشاه أن بلوغ الهدف سيكون بداية انشقاقات وصراعات لا ضابط للسيطرة عليها، والشارع العربي في أكثر من دولة يشهد استمرارا للاعتصامات والعنف في غير مرة وموقع.

وعودا إلى نظرية التصنيف التي تحلو لمجتمعاتنا العربية فهي بقدر ما تعد أمرًا مفيدًا في حياتنا الاجتماعية كونها تساعد على تبسيط تفاعلاتنا اليومية, بقدر ما تكون خطيرة كونها تؤدي إلى التصنيف الفئوي والحكم المسبق على الآخرين, لذا فإننا كي نصدر حكمًا منطقيًا على جماعة معينة, علينا التزود بمعرفة وفيرة بخصائص هذه الجماعة حتى لا يكون تصنيفنا نمطيًا يحقق مصلحة ذاتية يبرر فعلاً غير شرعي مثل الأبيض أذكى من الأسود فالأصل في التصنيف عملية معرفية تستخدم لفهم الأشياء سواء المتشابهة أو المختلفة, ففي حياتنا اليومية نصنف الأفراد ونتفاعل معهم بفئاتهم سواء أكان المعيار العمر أو الجنس أو الجنسية أو الطبقة الاجتماعية وغيرها فاستخدامها الهدف منه تسهيل عملية التفاعل الاجتماعي, ومن المفترض أن “ثقة الأفراد المتبادلة والمدركة بإمكانها أن تكون سببًا ونتيجة لتكوين الجماعة سيكولوجيا وإن أي متغير مثل المصير المشترك والتهديد والتشابه والثقة المتبادلة وغيرها أن تعمل محكًا للتصنيف الاجتماعي” أما إذا لم تتوافر لنا وسائل تقييم الذات الموضوعية فإننا نسعى لتقييم آرائنا عن طريق المقارنة مع الآخرين, فالمقارنة الاجتماعية كنظرية تكتسب أهمية كبرى بوصفها مفهومًا تفسيريًا في علم النفس الاجتماعي وتقوم هذه النظرية عند (فستنغر) على أساس أن الأفراد يقيمون أنفسهم ومعتقداتهم وآراءهم على أساسين هما أنا كفوء وأنا على حق, فإذا لم تتوافر وسائل موضوعية للتقييم نميل وننجذب لمواقف اجتماعية يكون فيه الآخرون مشابهين لنا, أو ما يعرف بالمحاكاة (الشخصية المتوائمة) فالمقارنات الاجتماعية على مستوى الأفراد تلعب دورًا مهمًا في تشكيل تصرفات الأفراد, ويقدم الأستاذ أحمد زيدفي كتابه الجميل “سيكولوجية العلاقات بين الجماعات قضايا في الهوية الاجتماعية وتصنيف الذات” دراسة تكاد تستقرئ الواقع العربي الذي نعيش حيث تلمس مقدماته قبل ست سنوات أو أكثر مقدما لنا في كتابه بعدا حقيقيا آخر يشخص الحالة العربية والمتمثل في التعصب والذي يرى فيه اتجاها سلبيا عرفته البشرية منذ أمد بعيد, فقد كان سببًا في الصراعات بين الأفراد والجماعات والأمم “ومصدرًا للتعاسة وسوء التفاهم بين البشر... ويوجد صعوبات اجتماعية ونفسية كبيرة تعوق النمو النفسي للفرد وقد تدفعه للاضطراب”.

إن التعصب كما يراه (كريتش) موجود غالبًا بين الشخصيات التي تعاني من السادية وتحمل مشاعر العدوان والإحباط, وينسجم هذا مع رؤية علماء النفس في أن التعصب مرض نفسي اجتماعي, وهو سلوك إنساني مرتبط بالأفكار النمطية التي تأخذ صورا وخصائص تؤكد أن التعصب شكل من أشكال الإحباط والعدوان وسمة من سمات الشخصية التسلطية.

ويقول أحمد زيد “أن العلاقة بين التعصب والأفكار النمطية علاقة قوية وكلا الجانبين يغذي الآخر على نحو ما فالتعصب يبرر الأفكار النمطية وهي بدورها تؤدي إلى مزيد من التعصب” وتتشكل الأفكار النمطية بفعل الوعي بالسمات والخصائص سلبًا أو إيجابًا بحالة معينة أو جماعات, فالغالب أن المبادرة سمة إيجابية عند الرجال بينما النساء سمتهن الغالبة هي الإحجام وذلك بناء على خصائص الشخصية عند كل منهن.

إن مشكلة التعصب حالة أصيلة في مجتمعاتنا نحاول مداراتها وإخفاءها والتنصل من الحديث عنها، وقد أوصلتنا حالة التجمل والترقيع إلى ما وصلنا إليه من الشخصية النمطية المتعصبة والى لبس أقنعة تخف مختلفة، ولعل الخشية هي باستغلال حراك الشارع للوصول إلى مزيد من الفوضى والتقهقر عوضا عن السير قدما في سبيل مكافحة الفساد واجتثاثه، والتقدم نحو دولة القانون والمجتمع المدني.

Leave a Reply