الصدمة الطبيعة والإنسان خارج المألوف

نحمل همومنا ونسير بها. تغلفنا الصدمات وبها نمضي في كل صوب، نتناثر عبر الزمان والمكان، مثقلين بوزر الحِمْل ودهشة الصدمات وسنوات العمر. تتغير ملامحنا، وتتسع العيون وتنفرج الشفاه، ويبهت لون البشرة وكأنه سُحبت منه الدماء من فرط الصدمات التي تتوالى في عناد.

. ولا تهمد إلا برحيلنا عن عالمنا هذا.. ولكن ستظل حِملاً على من يوصلنا لمرقدنا تحت الثرى.. تاركين للآخرين صدمة الرحيل.. ولا صدمة في دهشة الصدمة على الدوام، فهي سيرة وصفات لدى الإنسان والطبيعة، معاً.

منى مدكور الصدمة، هي كلمة «صادمة» في حد ذاتها في عرف الدارسين لعلم الأصوات واللغويين، فتركيبة حرف «ص» وحرف «د» معاً، لهما وقع ورنين صادم للأذن، وحرف «م» مع «التاء المربوطة» تشكل على السمع شكل تأثير الصدمة على الملامح وانفراجة الشفاه من شدتها، مثلما تنفرج عند النطق بنهاية الكلمة «الصدمة»، هكذا يوضح سيبويه، العالم الواضع لنظريات النحو والصرف، وهذا أيضاً ما يوضحه الخليل بن أحمد الذي وضع نظريات علم العروض والصرف.

وينضم إليهما العالم اللغوي الفرنسي الشهير دي سوسير الذي تكلم عن أثر الحروف ودلالة معانيها عند سماعها، مؤكدا أن الحروف اللاتينية التي فيها حرف «D» و«M» من الحروف الاحتكاكية الهادمة عند السماع بها.وإذا انحنينا احتراماً لهؤلاء العلماء العرب والأجانب، فلا بد لنا أن نلقي الضوء وبشدة على مفهوم الصدمة من العديد من الآراء، ونتطرق إلى هذا المفهوم «الصادم» في العديد من المجالات التي معها نعيش.

 

«مصدومون».. معاً نحكي

يوضح عالم النفس الألماني ف. مايشنباوم، مفهوم الصدمة، بأن الصدمة: (Trauma)، وهو الاسم العلمي لها في مجال علم النفس، وهي الإشارة إلى حوادث شديدة وعنيفة تهز الإنسان في العمق، وكأنه اصطدام بحائط فولاذي حاد في صلابته، معه تنهار قوى الإنسان فاقداً للوعي أو مودعاً حياته بالموت من شدة الصدمة الحسية، الناجمة عن الاصطدام، .

وأيضاً من فرط الصدمة النفسية الناجمة عن عجز الإنسان عن الدفاع عن نفسه، وتفادي المخاطر الصادمة عبر رحلته الحياتية على كوكب الأرض.والصدمة، كما شرحها عالم النفس الألماني مايشنباوم، حادث يهاجم الإنسان ويخترق الجهاز المناعي لديه، مع إمكانية تمزق حياة الفرد بشدة، ودائماً وأبداً، تنتج عن الصدمة آثار جانبية ضارة على المستوى القصوي والنفسي والعصبي للإنسان.

وغالباً، وبنسبة 80% يصعب عليه تحملها فتنهار قواه ويقع في نوبة غياب «إغماءة» أو فاقداً للوعي ويدخل في غيبوبة مؤقتة «Coma»، فيؤدي ذلك على المستوى النفسي أيضاً إلى تغيير في ملامح شخصية الإنسان «المصدوم»، وربما أن المتغير الشخصي والنفسي يكملان مع الإنسان حياته، لأن الشفاء من الصدمات العضال غير مضمون النتائج.

 

ارتدادات صادمة

ويوضح الدكتور يحيى الرخاوي عالم النفس المصري، والذي تُدرَّس نظرياته في مجال علم النفس الحديث في الجامعات العربية والعالمية، ان الصدمة التي يتعرض لها الإنسان، أياً كان نوعها، تؤدي إلى نشأة مرض الخوف العميق، المعروف علمياً باسم «onxiety»، وهو ليس «الفوبيا» كما يعتقد الكثيرون، فالخوف المرضي «anxiety» أحد الأمراض العصابية.

ويحدث ليس فقط من حوادث صادمة، وإنما أيضاً من وجود أشخاص هم في حد ذاتهم، صادمين في الشكل والمضمون، ويتأثر بهم من هم ذوي الطباع الرومانسية والطامحين دائماً لعالم مثالي. ويضيف بأن من الآثار الجانبية للصدمات الحياتية الإصابة بالعجز عن النطق، وكأن الأحبال الصوتية ضمنها فيها نوع من الخرس، اذ لا يمكن التكلم.

ويضيع الصوت مع تغيير في ملامح الوجه، مصحوبة بشحوب في لونه، وكذلك ارتجافة في الأطراف، وهي أحياناً تكون مصحوبة بتنميل فيها، وانخفاض درجة حرارة الجسم وتسرع ضربات القلب والنبض، وأيضا الشعور بالرعب الحاد، لأن الصدمة أو الصدمات، حدث فجائي حاد غير متوقع، يفجر الكيان الإنساني، ويهدد حياته، ولا تستطيع أمامه وسائل الدفاع الإنساني المختلفة، أن تسعف الإنسان للتكيف مع حدث الصدمة،.

فالأحداث الصديقة خطيرة ومربكة لأنها تباغت الإنسان في أغلب الأحيان وتتسم بالقوة الشديدة والسيطرة، ولكنها تختلف في التدرج من الحادة القاسية إلى المزمنة، ويمكن أن تكون صدمات فردية ناجمة عن حوادث طريق أو مرض عضال أو فقدان شخص قريب وعزيز، وأيضاً يمكن أن تكون شمولية، كغضب الطبيعة الذي يأخذ شكل الزلازل والأعاصير والتسونامي، وهذه النوعية من الصدمات تكون جماعية في شعب أو مجتمع أو طائفة.

وأيضاً حوادث السفن والطائرات، وحوادث السير جميعها تدخل ضمن الصدمات، التي تؤثر على الفرد والجماعة، تاركة وراءها دماراً إنسانياً كبيراً.

ويوضح الدكتور هشام حتاتة، الاستشاري النفسي، مظاهر الصدمة النفسية بأنها تأخذ أشكالاً متعددة، تظهر على الإنسان، من أهمها الشرود الذهني مع صمت قد يطول لأيام أو شهور، وركود في الحركة والإصابة باللامبالاة، مع الشعور بأن كل الأشياء في حياة الإنسان، بما فيها الأحداث، تتساوى لدى الشخص المصاب بالصدمة، فلا يبالي بأي شيء.. وكل شيء.

 

حالة رعب نفسي

اضطرابات النوم والكوابيس من المظاهر الجانبية للصدمة، خاصة لدى الأشخاص من ذوي السلوكيات المرهفة والمشاعر الرقيقة، ويضيف د. حتاتة بأن هناك أعراضاً فسيولوجية يُصاب بها الشخص من جراء الصدمة، أهمها فقدان الشهية للطعام واضطرابات الكلام، والتبول اللاإرادي لدى الأطفال بصفة خاصة، وأيضاً لدى المسنين. وكذلك تحدث حالة من الرعب النفسي تأخذ شكل هجمات من الخوف والاضطراب.

وقد يحدث هبوط حاد في الدورة الدموية، وهنا يكمن الخطر، ولا بد من تدخل الطبيب النفسي وطبيب القلب فوراً، حتى لا يحدث توقف مفاجئ في القلب ينجم عنه الوفاة.

 

الإعلام والصدمات

يلعب الإعلام دوراً فاعلاً وتصاعدياً في الحدث الصادم المخيف، مثل تجسيد متابعة الكوارث الطبيعية، كحرائق الغابات، ومشاهد ضحاياها وضحايا السيول والتسونامي، ولا بد للإعلام الواعي التنويه بموعد عرض هذه الأخبار ومتابعتها، خاصة إذا كانت المتابعة على مدار الساعة مثل متابعة الحروب والثورات، وهنا لا بد للأطفال وكبار السن من عدم مشاهدة هذه المشاهد الصادمة، لأنهما الأكثر تأثراً بها.

وهذا لا يمنع مختلف الأعمار الأخرى من التأثر النسبي، ولكن هناك تركيبات للشخصية لا تمكِّن صاحبها من رؤية هذه المشاهد المجسدة، فتكون تأثيرات الصدمة عليه قاسية.كما ان للفن السابع تجسيداته في الأفلام التي تتخذ من الصدمات مادة لها، فالتجسيد الفني للصدمات يزيدها حدة وقسوة، وتأثيراً هداماً للمتفرج.

ويختلف التأثير حسب شخصية المتفرج ومرحلته العمرية، ومن أشهر الأفلام العالمية في تجسيد الكوارث الصادمة، الفيلم الصيني «بعد الصدمة» والذي تزامن عرضه مع الكوارث الطبيعية في روسيا، خلال حرائق الغابات في صيف عام 2010.

وحقق الفيلم إيرادات هائلة، وكان يجسد الهزات الأرضية (الزلازل) وآثارها في المكان والأشخاص في جنوب شرق آسيا، والفيلم الأميركي «الساعة الأكثر ظلاماً» «The Darkers Hour»، وهو ينتمي لنوعية الخيال العلمي الحاد، ويتحدث عن سيناريو غزو فضائي للأرض عن طريق مخلوقات غريبة، وأعلنت مجلة «هوليوود انترناشيونال» عن توقف نسبي لتصوير الفيلم، بسبب حرائق غابات روسيا، حيث كانت أحداثه تصور هناك.

 

الصدمة في السينما العربية

يعتبر فيلم «الصرخة»، من بطولة المبدع نور الشريف ومعالي زايد، ومجموعة كبيرة من الممثلين، وهو من إخراج محمد النجار، من الأفلام المصرية القليلة التي تناولت قضايا الصم والبكم، وفي إطار أحداث متشابكة تعكس هذه الفئة، وينتهي الفيلم بصدمة وبصرخة لنور الشريف، ورد فعل قاس وصادم ومدو، وذلك عندما انتقم من الطبيبة المعالجة له ولمجموعة الصم والبكم.

والتي كانت تبتزهم وتوظفهم لصالحها في إتمام دراسة رسالة الدكتوراه الخاصة بها في هذا المجال، فقد حبسهم نور الشريف داخل حجرة وكبس زرا على جهاز للأصوات، وفق معدل أعلى درجة، وأصابتهم هم أيضاً بالصم، فكان مشهد القمة (ماستر سين) للفيلم، لكنه غاية في الصدمة لفئة قد يعتبرها المجتمع في حالة ضعف. وأثار المشهد هذا جدلاً كبيراً، ولكنه وضع الفيلم في مجال أفلام القمة التي تعرف بها السينما المصرية في عصورها الفنية الذهبية.

 

..في اللوحة

إذا كان للفن السابع تأثيره في مجال الصدمة، فإن اللوحات التشكيلية المجسدة لمفهوم الصدمة قد تكون الأكثر تأثيراً على الإنسان. ويلجأ أحياناً بعض الفنانين التشكيليين إلى تقنية الصدمة لخطف انتباه المتلقي المتفرج نحو إنتاجهم الفني، وإدخال المتفرج في الحدث الفني نفسه، النابع من قسوة الفكرة وقسوة الخطوط والألوان والرتوش.

وأشهر لوحات الفنانين التشكيليين في هذا التكنيك الصادم، هي للفنان البريطاني «آدم موريغان»، وتحمل عنوان «الصدمة»، التي ذاع صيتها أكثر وعرضت في معرضه الأخير بلندن، تحت اسم «معرض الغفران من الخطيئة».وتعكس لوحة الصدمة، إنسانا بشع الملامح يأكل حيوانات أليفة، بعد أن وجدها على طريق سريع.

وقد دهستها إحدى السيارات، واللوحة أثارت جدلاً كبيراً وانتقادات واسعة بجشع وتشيؤ الإنسان المعاصر، وانتزاع الإنسانية منه، وكأنه في زمن اللامعقول بحق. وبرغم المعنى السلبي لهذه اللوحة التي تصدرت بهو المعرض، وبيعت بمليون جنيه إسترليني، حقق المعرض شهرة واسعة، وصفها النقاد بـ«السلبية الصادمة»، ووصل النقاد الى ما هو أبعد من ذلك، فوصفوا الفنان آدم موريغان بـ«السيكوباتي»، وهو مرض نفسي حاد.

كما تعتبر لوحة الفنان الإسباني رانسيسكو دي جويا (1746 ـ 1828) من الفنانين الصادمين، وأكثرهم بشاعة في تصوير المشاهد الفنية التشكيلية الصادمة في أبشع ما تكون، يجسد هذا الاتجاه في لوحته «ساترن يأكل أبناءه».

وتعتبر أبشع لوحة في تاريخ الفن التشكيلي على الإطلاق. وتنتمي هذه اللوحة إلى تلك الفترة التاريخية التي يطلق عليها مؤرخو الحركة الفنية في أوروبا «المرحلة السوداء». ويخصون بها تلك السنوات الأخيرة، من عمر الفنان فرانسيسكو دي جويا، والتي اشتهرت بطبيعتها التشاؤمية والسوداوية.

وتعتبر اللوحة انعكاساً لحالاته النفسية، وقتذاك، والتي سبقت وفاته، وهي مرحلة عكس فيها شخوصا صادقة مشوهة مخيفة. وأبرزت جنوح أفكار لوحاته إلى كل ما هو مخيف وغير مألوف وغريب وقاسٍ.

 

في السياسة

عنف السياسي الألماني أدولف هتلر( 1889 ـ 1945) هو الأشهر، والمعروف بالعنف والصدامية والنازية، فهو واحد من بين مئة شخصية تركت أكبر أثر صادم في تاريخ البشرية، اذ اتسم بالنازية والديكتاتورية والاستعلاء والكاريزما الطاغية، وإذا ما ذكرت كلمة ألمانيا، قفزت إلى الذهن فورا، شخصية هتلر الصادمة، بينما يتسم الشعب الألماني بالحزم فقط والانضباط والابتكار والإبداع.

وإذا كان قدرنا أن تكون «الصدمات» من مفردات حياتنا، فما علينا إلا أن نحمل همومنا ونشير بها، وهذا في حد ذاته، نوع من التحدي حتى للصدمات. ودائماً يحمل خط الأفق لكل من يسكنون كوكب الأرض صدمات تحتاج روح التحدي، فما علينا إلاّ أن نتطلع لخط الأمل هذا.. فلن يحيا الإنسان سعيداً، إلا حين يقاوم صدماته.

 

 

Leave a Reply