الشعور بالأنا إعداد الأستاذ:محمد دلسي

سلسلة مقالات أحباب الحكمة
السؤال: هل الشعور بالأخر شرط ضروري لمعرفة ذاتي؟
إعداد الأستاذ:محمد دلسي{ثانوية الرائد نحناح}

إن الإنسان كائن عاقل واعي يدرك ما يحيط به من ذوات حية وجامدة ومن خلال هذا الإدراك يعي تميز ذاته كأنا مستقل ومتميز ليس فقط بالنسبة للأشياء بل حتى عن الأخر العاقل الذي يفكر ويعي ويدرك مثله وهو في هذه الاستقلالية يعبر عن وجوده الخاص من ناحية ومن ناحية أخرى يعي هذا الوجود المختلف عن الآخرين وهذا ما يعرف بالشعور بالأنا وهو يطرح مشكلة فلسفية عميقة ترتبط بالوسيلة المعرفية التي تجعل الذات تدرك ذاتها حيث اعتقد البعض أن الشعور الذاتي هو المؤسس لإدراك حقيقة الأنا بينما جعل البعض الأخر شرط ضروري كي يُشعر الذات باختلافها عنه وهو ما يدفعها في نفس اللحظة إلى معرفة ذاتها من خلاله وهو ما يضعنا أمام جدل فلسفي عميق يطرح الإشكال التالي:هل معرفة الذات تقوم على الشعور الذاتي أم على الشعور بالأخر؟
يرى ممثلي علم النفس الكلاسيكي وبعض الفلاسفة العقلين أمثال ديكارت بالإضافة على برغسون والوجوديين أن الشعور هو المعبر الجوهري عن حقيقة الذات وماهيتها والذي يكون وسيلة حدسية مباشرة تكشف للذات عن حقيقتها وتميزها كأنا مختلف عن الآخرين ممن يشتركون معه في الوجود.
حيث استند علم النفس الكلاسيكي إلى المبدأ السقراطي القائل فجعل الشعور الذاتي المغلق عن الآخرين الذي يدرك نفسه بالاستبطان وسيلة لمعرفة الذات كونه معرفة حدسية مباشرة ذاتية لا يمكن للأخر إدراكها ويؤيد هذا التوجه أصحاب النزعة الحدسية أمثال برغسون الذي يرى أن الشعور هو المعبر عن ماهية الذات لأنه دائم المصاحبة لها فلا توجد الذات إلا وهي في حالة شعورية ما لذك فهي لا تتوقف عن الشعور وغيابه يعني عند غيابها لذك جعل من الديمومة صفة للشعور فهو كما يشبهه برغسون كالنهر المتدفق الذي قد يضعف سيله و لكنه لا يتوقف وهو متغير حسب تغير حالات الذات النفسية لذك ففي أي حالة كانت فيها الذات يتم إدراكها بالشعور لأنه متغير بتغير حالات النفس وهذا ما عبر عنه بيلز باسكال عندما قال ونجد هذا الطرح مؤسس فلسفيا عند أبو الفلسفة الحديثة روني ديكارت الذي اتخذ من الشك منهجا له للمعرفة قائما على فكرة البداهة فقرر أن لا يقبل إلا الفكرة التي لا تقبل الشك وكانت تلك الفكرة هي حقيقة الشك ذاتها ثم يستند ديكارت على برهنة أخرى مضمونها ويسميها بالدوبيدو لتوصل إلى إثبات الذات عن طريق قاعدة الكوجيتوkogito/irgo/sum فهو يتخذ من التفكير دليلا على وجود الذات ومن خصائص التفكير انه واعي ومنه فكل ما يحدث في النفس يعيه الشعور والتفكير ومن هنا يؤسس ديكارت لمسلمته الأساسية الأولى وبتالي فكل ما يجول في الذات من حالات وعواطف يدرك بالشعور فلا يوجد في النفس مالا نشعر به وهو ما يؤدي إلى الإقرار بمسلمة ديكارت الثانية ومضمونها ومنه فالشعور يؤدي إلى معرفة كاملة بالذات ومن هذا وجب أن يكون الوسيلة الوحيدة لإدراكها ونجد هذا الطرح مؤيد كذلك عند مؤسس المنهج الفينومينولوجي إيدموند هوسرل حيث نجده يقول معبرا عن موقفه وهذا ما يسميه بالشعور القصدي أي أن الشعور يقصد موضوعا ما فلا يمكن أن يوجد الشعور فارغا من مضمون كما لا يوجد موضوع دون شعور وبتالي فالوعي صفة ملازمة للشعور القصدي وعليه فالشعور بالذات يؤدي إلى الوعي الكامل بها وبالإضافة إلى كل المواقف السالفة نجد الوجوديين وخاصة كيركجارد يتخذون من الشعور وسيلة لتكوين الذات وإدراكها في نفس الوقت فالإنسان عندهم مشروع وجود لا يولد ذات بل يصير ذاتا فهو يسعى إلى تكوينها باستمرار عن طريق الاختيار بين الممكنات وهذا ما يكون عن طريق الشعور فالذات تختار بذاتها ولذاتها عن طريق شعورها وبتالي فلا يمكن إدراك حقيقة الأنا إلا عن طريق الشعور النفسي العميق المرتبط بالإرادة الحرة.
رغم أن أصحاب هذا الطرح قد وفقوا إلى حد بعيد في بيان قيمة الشعور في معرفة أحوال الذات ومدى ارتباطه النفسي بها من حيث انه معرفة حدسية ذاتية خاصة لا تنكشف للآخرين تؤدي إلى إدراك مجال واسع من الأنا لكن ليس كاملا خاصة بعد اكتشاف اللاشعور كمجال مخفي من النفس لا يدرك إلا بالتحليل النفسي من طرف الطبيب النفسي كما أن الشعور قد يخدعنا فلا ندك حقيقة الحالة النفسية وهذا ما يشير إليه سبينوزا فمثلا السكير يشعر بأنه في حالة نفسية متعالية ولكنه في الحقيقة فاقدا للوعي الحقيقي بحالته النفسية.
وخلافا لما سبق يرى أصحاب نظرية المقارنة والمغايرة أمثال باركلي ونظرية التواصل أمثال ماكس شيلر أن معرفة الذات تقوم على الشعور بالغير وهنا يصبح وجود الأخر شرط ضروري لمعرفة حقيقة الأنا.
حيث استند باركلي إلى نظرية المقارنة والمغايرة حيث يرى أن الذات جزء من الوجود الواعي لكن لا توجد وحدها بل مع الأخر كمكون لهذا الوجود وتدخل معه في تفاعلات من خلالها تعمد إلى مقارنة نفسها بذوات الآخرين فتلحظ أنها تتماثل معها في كثير من التصرفات والسلوكات وهذا جزء التشابه في الوجود بين الذوات الواعية لكن بالمقابل تلحظ أنها تختلف عن الآخرين في كثير من السلوكات الأخرى وفي هذا الجانب تدرك أنها انا مختلف عن الآخر فتعي نفسها كذات متميزة وهذا التميز يدفعها إلى وعي استقلاليتها فتدرك حينها حقيقتها ومنه فوجود الأخر شرط لإدراك ماهية النفس لأنه لولا وجود لما كانت المقارنة والمغايرة ويؤيد هذا الطرح جون بول سارتر عندما يقول كما نجد مان دوبيران يجعل من التعارض مع الآخرين سببا في تحقيق الوجود المستقل الواعي لأن الفرد حينما يماثل الآخرين يعني انه غير منفصل عنهم وهنا تذوب الأنا في الأخر لهذا فلا مجال لفصلها ووعيها إلا من خلال معارضة الآخرين للتعبير عما هو خاص وذاتي وهنا يحصل وعيها باستقلاليتها كأنا مختلف حيث نجد مان دوبيران يقول وبخلاف أطروحة التناقض فإن أطروحة التواصل رغم أنها تجعل الشعور بالغير شرط للشعور بالذات فإنها تجعل العلاقة بين الذات والآخر علاقة تواصلية لا تناقضية حيث نجد ماكس شيلر يقيم هذه العلاقة التواصلية على أساس المشاركة العاطفية كعمل قصدي نزوعي يتجه نحو الغير مثل الألم الذي يشترك فيه الأب والأم عند وفاة ابنهما فلا ينفرد أحدهما بألم خاص به بل هما يشتركان في ألم واحد والحب كذلك شعور قاصد يتجه نحو الأخر مثل مشاركة الغير أفراحه وأتراحه ففي هذه المشاركة قصد إلى الشعور بمشاعر الغير وهنا تتشكل حالة شعورية موحدة يدرك فيها الأنا حقيقته في تماثلها مع الآخر وهذا ما يؤيده أيضا صاحب النزعة الشخصانية موني حين يقول.
لقد وفق أصحاب هذا الطرح في بيان قيمة الأخر في وجود الذات وتأثيره في نمط وجودها من خلال التفاعل المستمر مع الذات لكن بالمقابل لا يمكن اعتباره شرط كافي لمعرفة الذات لأنها تستقل بحالات نفسية خاصة لا يمكن معرفتها إلا بالشعور الذاتي المنبعث من عمق الإرادة كما أن اعتبار الأخر مناقض للذات كان لها أثار سلبية من الناحية الاجتماعية مثلما هو الحال في ثنائية المستعمِر والمستَعمَر والمتحضر والمتخلف وهو ما ينشئ العداوة والخصومة بين الأفراد والمجتمعات.
إن كلى الموقفين السالفين نظر إلى المشكلة من زاوية أحادية لهذا كانت أرائهم ذاتية لا بد من المزج بينها من اجل الوصول إلى موقف موضوعي يقوم على أساس الجمع بين الشعور الذاتي والشعور بالأخر في نفس الوقت كسبيل لتحقيق الوعي الكامل بالذات والتي في الحقيقة لها مرتبتين من الوجود،الوجود الذاتي الخاص والوجود الاجتماعي العام وفي القسم الثاني نجد الدين الإسلامي يحمل مفهوما جديدا للأخر متسامي عن كل الفلسفات الأخرى وهو الأخر الأخ الذي يكون جعله في نفس مرتبة الذات شرطا ضروري للإيمان حيث يقول عليه الصلات والسلام وهذه أسمى وضعية يمكن أن يلتقي فيها الأخر والذات في هذا الوجود.
ومن كل التحليل السابق نستخلص أن تحديد الأصل المعرفي لإدراك الذات قائم على تحديد طبيعة العلاقة بين الذات والأخر على المستويين الفلسفي والاجتماعي وهنا بالذات تكمن أهمية القضية في تحديد نمط العلاقة الاجتماعية بين الذات والأخر والتي حددتها الرؤية الإسلامية المتعالية في علاقة الأخوة أما فيما يتعلق بالجانب الفلسفي المعرفي فإن إدراك الذات لحقيقتها يتم وفق الشعور الذات بذاتها وشعورها بغيرها في نفس الوقت وبنفس درجة الاهمية.

Leave a Reply