الخلفيات النفسية.. للعلاقات الدولية

الخلفيات النفسية.. للعلاقات الدولية

تاريخ النشر: الجمعة 11 أبريل 2014

يشتغل الأكاديمي الفرنسي الشهير برتراند بادي في كتابه الصادر مؤخراً تحت عنوان: «زمن المُهانين، باثولوجيا العلاقات الدولية»، على أوجه التقاطع والمسافات البينية القائمة بين علم النفس وعلم الاجتماع السياسي والعلاقات الدولية، منطلقاً من فرضية عمل نظرية مؤداها أن تراكم الشعور بالإذلال والإهانة لدى بعض القوى الدولية هو ما يولد عادة في فترة لاحقة ردود فعل متشنجة لديها، وقد يتسبب في وصول العلاقات بين الدول أحياناً كثيرة إلى درجة من الاحتقان تعبر عن نفسها في شكل حروب وصراعات ونزاعات محتدمة، يهدف فيها من يشعرون بالتهميش والإقصاء والإهانة لاستعادة المكانة التي يعتقدون أنهم يستحقونها في المشهد الدولي. وفي تفصيل هذا الطرح، يرى الكاتب أن النظام الدولي كثيراً ما يقوم على نوع من دبلوماسية التمركز حول الذات تمارسه الدول الكبرى أو القوى السائدة، حين تهمّش في ترتيباته الدول المصنفة ضعيفة أو مهزومة في خواتيم الحروب وتضغط تطلعاتها إلى منطقة الظل والإقصاء من فرص التعبير والتأثير في إدارة الشأن الدولي. وقيام نظام دولي كهذا على أسس مختلة، أو غير متوازنة، هو ما يولد الضغينة والشعور بالإذلال لدى الأطراف المناوئة له أو التي لا تجد نفسها فيه، وتكون الصراعات اللاحقة التي تنخرط فيها الدول السائدة والدول المتوثبة أو الساخطة مجرد تحصيل حاصل بديهي، بل حتمي لاستحالة استمرار نظام دولي قائم على أسس غير متوازنة، وغير قابلة للاستدامة.

ويرى «بادي» أن أي تتبع لتحولات التاريخ الحديث والمعاصر يكشف بوضوح قيام النظام الدولي على مثل هذه الاختلالات وتجذرها فيه، بل إن بعض تداعيات هذا الواقع غير المتوازن هي ما نراه الآن في مقدمة الأخبار الدولية العاجلة، مثل ما يجري في أوكرانيا، حيث يتصرف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من خلال تصريف فائض القوة كرد فعل على ما يعتبره إهانة وإذلالاً تعرضت له بلاده بعد سقوط الاتحاد السوفييتي السابق، خاصة خلال سنوات عثراتها ومشكلاتها الاقتصادية في نهاية القرن الماضي خلال حكم يلتسين، وبعد ذلك في الطريقة الاستعلائية التي تعاملت بها القوى الغربية معها ضمن مجموعة «السبع»، حيث ظل ينظر إليها دائماً كآخر مختلف أو غير مؤهل للعضوية في نادي «الكبار»، وحين ضمت في مجموعة «الثماني» بعد ذلك ظل ينظر إليها أيضاً كعضو احتياطي، أو متكرّم عليه بالعضوية، أو حتى مُحدَث عضوية، تماماً مثلما أن الصين وسقف تطلعاتها الدولية المرتفع وسعيها الحثيث للتحول إلى قوة دولية عظمى، تحفزه أيضاً هواجس الغبن والإهانة التي تعرضت لها خلال النصف الأول من القرن الماضي على أيدي الغربيين واليابانيين.

وبين دفتي كتابه الواقع في 190 صفحة، يستعرض «بادي» العديد من الصراعات الدولية الأخرى ذات المنشأ المرتبط بعُقد التاريخ وأعباء الذاكرة، وسعي من يعتبرون أنفسهم مغبونين في المشهد الدولي لاستعادة دور أو فرض حضور، ولعل من أكثر ما يحضر في الذهن هنا من أمثلة، واقع ألمانيا خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، وما استبطنته من شعور بالظلم والإذلال في ترتيبات ما بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، وقد أدى السعي لتصحيح خلل الترتيبات الدولية غير المنصفة واستعادة مجد ألمانيا وشرفها المهدور إلى تهيئة الأجواء لظهور هتلر، مع كل ما ترتب على ذلك من أهوال الحرب العالمية الثانية. وليس مثال هتلر فريداً أيضاً في هذا المقام، وإنْ كان هو الأكثر نفوراً ودموية، وأيضاً الأقل عقلانية وإنسانية في مسعاه لرد الإهانة التي تعرضت لها بلاده.

ويرى الكاتب أن النظام الدولي لا يمكن أن يقوم ويستمر إلا على ترتيبات تحفظ لجميع الأطراف الدولية دورها وحضورها، وتراعي مكانتها وتحترم مظاهر اختلافها، وتتيح توظيف ما بين يديها من إمكانيات وفرص تأثير. وهذا يقتضي تفكيك الواقع الدولي الراهن القائم على نوع من مركزية القوى الكبرى، وتهميش الدول البازغة والنامية، وعزل بعض النظم الأخرى المصنفة «مارقة» أو خارج السرب. بل لا بد أن يكون النظام الدولي مكاناً لترسيخ الشراكات البناءة وتحاور المختلفين والمتباعدين حتى في المصالح والثقافات والتوجهات. وبديهي أن المرء لا يتفاهم أساساً مع ذاته ولا مع نسخ كربونية طبق الأصل عن نفسه، وإنما يتفاهم مع خصومه والمختلفين عنه سياسياً أو حتى مزاجياً ونفسياً. ومثل هذه النظرة الواقعية التي تراعي للنزعات النفسية والقومية أبعادها، وتحفظ للزعامات الأخرى المتوثبة خلفياتها ودوافعها النفسية، وللشعوب المختلفة مصالحها، هي ما ينبغي أن يكون رهان المستقبل، وعنوان أي نظام دولي جديد بديل قابل للاستمرار والاستدامة، لأجيال عدة مقبلة.

حسن ولد المختار

الكتاب: زمن المهانين، باثولوجيا العلاقات الدولية

المؤلف: برتراند بادي

الناشر: أوديل جاكوب

تاريخ النشر: 2014

Leave a Reply