التخلف.. مفرد بصيغة الجمع صالح الشهوان

رغم الكفاءات الفكرية في عالمنا العربي في مجالات: علم الاجتماع، علم النفس، علم الأناسة (الأنثروبولوجيا)، والتربية والفلسفة، إلا أننا بالكاد نعثر على دراسات دقيقة التشخيص ثاقبة الرؤى جريئة الطرح لمجتمعاتنا العربية المعاصرة كل على حدة!

لقد بدا واضحا أننا أدمنا ''موضة'' نبش تراثنا الفكري أو مذبحة التراث كما سمّاها جورج طرابيشي، عبر كتابات مميزة للجابري وأركون وجدعان وأبوزيد وغيرهم ممَّن سعوا لاقتناص علة تخلف الحاضر من ركام الماضي، لكننا قليلو الحظ من معالجات فكرية تجابه ما تتخبط فيه مجتمعاتنا العربية المعاصرة من فائض التخلف في وعيها ومواقفها تجاه منتجات التقدم في الفكر والسلوك والتنظيم والتطبيق، فحتى تلك الكتابات القليلة التي اقتحمت أسوار المسكوت عنه ولامست جدار التابو عمد فيها الكاتب أو المفكر إلى التواري خلف عباءة الإطلاق والتعميم على طريقة: ''مفرد بصيغة الجمع'' ـــ وهو عنوان ديوان لأدونيس ــــ بمعنى الإحالة إلى مرجعية (العالم العربي) أو كلمة (العرب) وكأن المجتمعات العربية كلها متجانسة أو كيانات مجردة وليست محشرا من التعقيدات والإشكالات الثقافية، الفكرية، المذهبية، الإثنية والملل والنحل والتشوهات النفسية والخزعبلات الذهنية وفروق العادات والتقاليد.. ومع ذلك فالمفكر العربي ظل يستجمع شجاعته تحت اللافتة (العربية) فقط ليقول بعضا مما يعتبر خارج النص ثم يجد سبيله للنشر لأنه يقرأ على أساس أنه تشخيص يخص العرب الآخرين، فكل مجتمع عربي يرى نفسه غير مقصود به ولا يعنيه!!

إن ما يجعل المفكر العربي يحاذر الحديث عن مجتمع عربي بعينه، فلا يمارس معه نزع الأقنعة ووصف المشهد كما هو بشروخه وتشوهاته وبنية التخلف الحقيقية فيه هو كونه يعرف سلفا الأحكام الفادحة الرهيبة التي تنتظره إن هو أقدم وتجرّأ على ما يعتبر حرزا مصونا ينبغي عدم الاقتراب منه وإلا فذا يعني وقوعا في المحذور!!

إن تشريح التخلف بفائضه من الانهيارات المعنوية أو التشوهات الذهنية أو الفصامات الشخصية أو تكتيكات مجاورة الدجل بالحقيقي والخرافة بالعلم وخلط المقدس بالنفعي، وتبريرالتمرغ بالفساد مع ادعاء النزاهة، والتظاهر بالعفة مع الهوس بالمتعة وذم الحرية والحضارة والتقدم مع الهرولة إلى مرابعها.. إن تشريح مثل هذه التناقضات الحادة سرعان ما يحكم عليها المجتمع على أنها دس خبيث وآراء مسمومة وقد تنعت بأنها رجس من عمل الشيطان، لا بد أن قائلها شخص مشبوه ذو أفكار هدامة أو عميل أو متآمر أو على الأقل مستغرب ضللته أفكار الغرب المادي المنحل!!

مع ذلك، فالباحث أو المفكر العربي قد لا يجد كثير غضاضة في هذه التهم والأحكام الجائرة، فمثلها موجودة أيضا في عديد من بلدان العالم.. إلا أن المعضلة تكمن في أن الإساءات اللفظية غالباً ما تكون مقدمة لما هو أبشع وأفظع وهو أن يتم تبني هذه (الهوجة) العامية ضد المفكر أو الكاتب على أساس أنها آراء تمثل تهديدا للسلم الاجتماعي وبالتالي يعامل المفكر أو الباحث كما لو كان فعلاً قد ارتكب جناية ولم يقم بالتفكير والبحث وأنه كتب ولم يقترف جريمة.

لقد أدرك المفكر العربي هذه الحقيقة منذ زمن ''أبو حيان التوحيدي'' الذي أحرق كتبه قرفا ويمم الصحراء يأكل الخضر كما دفع ثمنها تشنيعا ومحاكمة وسجنا رواد عصر النهضة وها هو اليوم كل مجتمع عربي ما زال يتلقف الأنباء والأخبار والتحليلات والبحوث والدراسات وأقوال الصحف والمواقع الإلكترونية الصادرة في غير مجتمعه على أساس أنها دائما مغرضة.. وفي يقيني أن هذه الإدانة المسبقة للآخرين أصابت برهابها المفكرين والكتّاب العرب وهو ما يفسر مجافاتهم عالم البحث الرصين .. حتى وإن كانوا يرون .. فإنهم يبقون في أفواههم ماء!!

Leave a Reply