الأم بوصفها عاملاً للانتخاب الطبيعي


2012-03-14

المنامة - حسين محمد حسين

 

في الفصول السابقة بدأنا في عملية التأسيس لتوضيح نظرية تأسيس ثقافة تتضمن إيذاء الأطفال أو قتلهم، والمرجّح أنه بدأ التأسيس لتلك الثقافة بتواطئ جماعي بين عددٍ من أفراد جماعة ما ثم بدأ بالانتشار ضمن هذه الجماعة حتى أصبح من المسلّمات عند هذه الجماعة أن قتل الرضيع الحديث الولادة (وخصوصاً الأنثى) أمر طبيعي، وفي مرحلة التأسيس هذه لابد أنه كان هناك من يمسك بخيوط هذه الثقافة حديثة التكوّن ويتحكم بها ويروّج لها، وربما يفرضها فرضاً في صورة عنفٍ رمزي يُمارس ضد الجماعة المُهيمَن عليها، وبذلك تصبح هذه الثقافة من المسلّمات، وما أن تتحوّل ثقافة ما إلى درجة المسلّمات تبدأ هذه الثقافة بتكوين قوة داخلية بحيث تُسير نفسها بنفسها دون الحاجة إلى محرك. وعند هذه اللحظة تبدأ الخطورة الحقيقية لهذه الثقافة لأنها لن تكون ثقافة مقتصرة على جماعة معينة أو حقبة زمنية معينة لكنها ستبدأ بالانتشار على مستويين، مستوى أفقي بين الجماعات المختلفة ومستوى عمودي يمتد إلى الأجيال القادمة. ثقافة إيذاء الأطفال أو قتلهم، كما لاحظنا في الفصول السابقة، قد تحوّلت إلى نوع من المسلّمات بين جماعات عديدة وبذلك أصبحت هذه الثقافة قادرة على الإنتشار والانتقال للأجيال القادمة وذلك عن طريق إعادة برمجة عقول أفراد الجماعة لتجعل منهم قتلة للأطفال. بعد ذلك تم تمرير تلك البرمجة لعقول الأجيال اللاحقة.

عملية البرمجة هذه ليست خيالاً أو مجرد مجاز لغوي (ميتافور) بل هي عملية فسيولوجية تتضمن عملية تشغيل أو إطفاء جينات معينة أثناء نمو عقل الطفل الصغير وهذه عملية تتأثر بصورة أساسية بسلوك الأم؛ وبذلك تلعب الأم، من خلال سلوكها تجاه أطفالها، العامل الذي ينتقي الجينات التي تبرمج عقل الطفل لتنتج سلوكاً معيناً يسلكه الطفل مستقبلاً. في واقع الأمر، هناك نوعان من البرمجة التي تحدث للدماغ، إحداهما برمجة سلوكية - جينية والأخرى عاطفية - فسيولوجية، ولكي نوضح هذه البرمجة علينا أن نوضح بعض المصطلحات.

لدانة الهيئة الظاهرية
كل فرد يكتسب من أبويه مجموعة جينات تعطيه تكوينه الشكلي الظاهري، وتركيبه الفسيولوجي الداخلي، حتى سلوك الفرد وطباعه ربما يكون لها أساس جيني وهناك عدد من تلك الطباع تؤكد البحوث بأن لها أساساً جينياً، غير أن هذه السلوك أو الطباع تكون قابلة للتعديل، وفي واقع الأمر، أن الهيئة الظاهرية لأي كائن حي بما فيها السلوك والطباع قابلة للتعديل على مدى حياة ذلك الكائن، وهذا ما يطلقون عليه مصطلح «لدانة الهيئة الظاهرية» phenotypic plasticity. وتعتمد التغيرات الحادثة للهيئة الظاهرية على تفاعل الكائن الحي مع البيئة والكائنات الأخرى في البيئة نفسها. هذا المبدأ مواز لما صاغه لامارك في العام 1809م، إلا أن لامارك انتقد لأنه اقترح أن هذه التغيرات الناتجة عن التفاعل مع البيئة قابلة للتوريث، وهذا لا يحدث عملياً، فهذه التغيرات غير وراثية هي ردود أفعال يتكيف من خلالها الفرد مع متغيرات خارجية معينة وفي الغالب تستمر هذه التغيرات من بضع ثوان إلى بضع سنوات؛ إلا أن هناك عوامل خارجية إضافية من الممكن أن تجعل من هذه السلوكات أو التغيرات الجديدة المكتسبة تمرر إلى عدد من الأجيال القادمة؛ أي تورَّث ولكن بصورة «ثقافية» غير جينية وأهم هذه العوامل هو «البيئة الأمومية» أو بمعنى آخر سلوك الأم تجاه الأبناء (Agrawal 2001).

البرمجة السلوكية - الجينية
الدماغ البشري هو العضو الأكثر تأثراً بالمؤثرات الخارجية، القدرات الوظيفية للدماغ تتطور على مدى الحياة؛ إلا أن الغالبية العظمى للتنظيم التركيبي والوظيفي يحدث في فترة الطفولة، في الواقع إن دماغ الطفل يصل إلى 90 في المئة من حجم دماغ الشخص البالغ عندما يكون جسم الطفل 18 في المئة من حجم الشخص البالغ (Perry 2000). أثبتت التجارب العلمية التي أجريت على الحيوانات أن عملية التطور هذه التي تحدث للدماغ لا تشمل فقط عملية نموه بل يتميز الدماغ عن باقي أجزاء الجسم أن الجينات المسئولة عن عملية تكوين بعض المناطق في الدماغ لا تكون منشطة عند الولادة؛ بل إن هذه الجينات تحتاج إلى تنشيط، ولكي يتم تنشيط هذه الجينات فهي تحتاج إلى مؤثر خارجي، ومن أهم هذه المؤثرات هو «سلوك الأم» تجاه الطفل، وبحسب نوعية السلوك الذي يؤثر في الطفل يتم تنشيط أو تشغيل جينات معينة، فإن كان سلوك الأم تجاه طفلها سلوكاً إيجابياً فإنه يُحدث تنشيطاً لجينات معينة تؤدي إلى أن الطفل مستقبلاً يسلك سلوكاً إيجابياً معيناً، والحالة ذاتها إذا كان السلوك سلبياً. هذا التنشيط الجيني لا يمكن أن يتم عكسه مستقبلاً؛ أي إنه عندما يتم تشغيل جين عن طريق سلوك معين (سلبي أو إيجابي) فإنه يؤدي إلى برمجة معيّنة لا يمكن تغيّرها تحت الظروف الطبيعية، بالطبع مازال العمل جارياً لتحديد أي الجينات التي يتم برمجتها وما هو السلوك الناتج عنها، ويمكن الوقوف على تفاصيل ذلك في أبحاث Weaver وزملائه (Weaver 2007، Weaver et al 2005، Zsyf et al 2007).

البرمجة العاطفية - الفسيولوجية
لاحظنا كيف أن سلوك الأم يؤدي إلى تشغيل جينات معينة والتي تعمل بحسب السلوك الذي تعرض له الطفل، ولكن ليس بالضرورة أن تكون هذه الجينات كافية لإعادة تدوير السلوك إلا أن استمرارية أو تكرار حدوث الأذى للطفل يؤدي إلى نوع آخر من البرمجة وهي البرمجة النفسية، وهي غير البرمجة الجينية أي إنها لا تؤثر في الجينات. فعندما يتعرض الطفل إلى نوع معين من الأذية أو التحرش أو الاغتصاب يصاب الطفل بما يعرف في علم النفس بالصدمة النفسية، أما الحدث الذي يسبّب هذه الصدمة فيعرف باسم الحدث الصادم، ومن أهم العوامل التي تجعل من أي حدث حدثاً صادماً هي أن يؤدي الحدث إلى التهديد بالموت أو إلى الإصابة الخطيرة أو أن يؤدي إلى شعور قوي بالخوف والعجز، وأحياناً يكون الحدث الصادم غير مباشر على الطفل فنبأ وفاة مقّرب إليه أحياناً أو مشاهدة اعتداء عنيف على شخص آخر قد يكون حدثاً صادماً. أما تأثيرات الحدث الصادم على الطفل فتتباين بحسب شدة الحدث وتكرار حدوثه، وعلى هذا الأساس قسمت الصدمة النفسية إلى ثلاث درجات (Solomon and Heide 1999). خطورة الصدمة النفسية هذه أن الطفل عندما يتعرض لها ربما تؤدي بالطفل في المستقبل لأن يمارس الفعل الذي مورس عليه؛ أي أن يتحول الطفل مستقبلاً من مجني عليه إلى جانٍ؛ إذ يشير عدد من الدراسات إلى أن العديد من المتحرشين بالأطفال كانوا ضحايا للتحرش الجنسي (Hilton and Mezey 1996). لقد صمم الدماغ لكي يتغير استجابةً لتحفيز منظم ومتكرر، والتحفيز المرتبط بالخوف والصدمة النفسية يغير من الدماغ؛ إذ ينشأ عنها العديد من الاستجابات العصبية الهرمونية والعصبية الفسيولوجية، وقد أثبتت الدراسات التي أجريت على نماذج حيوانية أن التحفيز المستمر للنظام الهرموني وعدد من الموصلات العصبية استجابة لضغوط معينة تنتج عنه نتائج سلبية تتضمن تغيرات في مناطق معينة في الدماغ التي ربما تخمل أو تتوقف عن العمل أو تغير في وظيفتها (Perry 2000).

يمكننا الآن تصور ماذا يحدث لطفلة تم برمجتها جينياً من قبل أمٍ قاسية وأب يفضل الذكور على الإناث، ثم بعد ذلك تم برمجتها نفسياً من خلال مجتمع يضطهد الأنثى بل وتكون فيه عرضة للاغتصاب في أية لحظة. بالطبع سيكون الناتج، في حال استطاعت هذه الطفلة البقاء لتكبر وتتزوج، أماً أن تعيد تدوير كل ما حدث لها على أطفالها الذكور والإناث؛ وبهذه الصورة تتم برمجة أجيال جديدة تقوم بإعادة تدوير ثقافة إيذاء الأطفال، وثقافة تفضيل الذكر على الأنثى وغيرها من هذه الثقافات الشاذة الذي يكون ضحيتها الأطفال. وهكذا فالكاتبة Patricia Raya في بحثها عن ختان الأنثى ترى أن استمرار وإصرار النساء على ختن بناتهن ناتج عن عملية انتقال الصدمة النفسية الناتجة من عملية الختان عبر الأجيال والتي تؤدي إلى تحول الضحية إلى جانٍ (Raya 2010).

أعطني أمهات أعطك عالماً
يقول القديس أوغستين (354م - 430م) «أعطني أمهات أخرى وسأعطيك عالماً آخر». هذه الجملة تدل على مدى إدراك الشعوب القديمة بأهمية الأم وبأهمية تأهيل الطفلة الصغيرة وتربيتها لتصبح أماً صالحة تعطي أجيالاً صالحة، غير أن الثقافات القديمة المختلفة، كما رأينا في الفصول السابقة، لم تأبه لذلك، تلك الثقافات التي أخضعت الطفلة أو الأم لظروف قاسية، منها الإهمال والضرب والاغتصاب، وكل ذلك حدث بصورة روتينية ولفترة زمنية طويلة، وبذلك تكون تلك الثقافات قد تلاعبت بعواطف أهم متحكم في برمجة عقول الأطفال، الذكور والإناث، لأن سلوك الأم تجاه طفلها هو الذي يبرمج العقل عن طريق تشغيل جينات أو إطفاء جينات معينة، فكيفما بُرمجَت الأم عاطفياً فإنك ستحصل على أجيالٍ بتلك البرمجة العاطفية نفسها التي بُرمجَت بها الأم منذ أن كانت طفلة حتى أصبحت أماً.
________________
صحيفة الوسط البحرينية

Leave a Reply