أطباء علم النفس يجيبون عن السؤال‏:‏ لماذا تغير المصريون ؟

 فقبل ثورة يناير كان كل منا منشغلا بنفسه أما الآن فهناك اهتمام كبير بالشأن العام وشعور بالغير من ناحية اخري انخفضت معدلات الاصابة بالأمراض الاجتماعية والنفسية التي يعاني منها المصريون مثل الاكتئاب وعدم الانتماء لكن علي الجانب الاخر تفاقمت أعراض الاحباط من عدم تحقيق أهداف الثورة بصورة متسارعة كما كنا نتمني بعد ارتفاع سقف التطلعات والمطالب والامال وهو ما يؤدي إلي مزيد من التوتر مما أوجدالفوضي والغضب والمشاجرات والعنف وظهور سلوكيات غريبة عن مجتمعاتنا مثل التحرش مما يهدد بتوطن هذه السلوكيات السلبية بعد مرور عامين علي الثورة
في البداية يؤكد الدكتور يحيي الرخاوي أستاذ الطب النفسي بكلية الطب جامعة القاهرة ليس المصريون هم من يظهرون في الفضائيات أو في ميدان التحرير بل المصريون هم أوسع وأعمق وأشمل من ذلك وكل ما نراه من انفلات سلوكي يرجع الي زوال قشرة من الرعب والقهر فظهرت طبقات من الحسن والسوء ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها, وإياكم والتعميم. اما الغضب المشاجرات والعنف الذي نراه الان هذا ليس ناتجا عن تغير أخلاق المصريين وإنما يشير الي غياب الدولة داخلنا, وخارجنا, الدولة تبدأ من سلطة الأب في المنزل والمدرس في المدرسة, وعسكري المرور أمام الإشارة. وحين تغيب الدولة وتهتز قراراتها مثل قرار غلق المحال والضريبة العقارية و الهيئة التأسيسية, تهتز الأسرة كدولة صغيرة لذلك فان غياب هيبة الدولة داخلنا وخارجنا بدأ منذ مؤامرة الهجوم علي أقسام البوليس وفتح السجون, ونحن نحتاج وقتا طويلا لاستعادة بعض الهيبة اللازمة لنكون دولة.
ان اهتمامات المصريين وعاداتهم وافكارهم واسلوب حياتهم لن يتغير في عام أو عامين هذا ما يؤكده الدكتور الرخاوي لكنها مسألة تراكم سلوكيات جديدة تستغرق أجيالا و ارتفاع سقف التطلعات والمطالب لا يعني التمادي حتي التفكيك والتهديد بالإفلاس اما الاكتئاب فلم يتراجع بسبب الحسرة علي إجهاض الثورة. أما التحدي الذي نلمسه الان فهو للأسف موجه للرموز والأفراد وليس لتحدي الفشل والكسل والاعتمادية والتأجيل.
لا يمكن الحكم بصورة تامة علي التغيرات التي طرأت علي الشخصية المصرية بعد مرور عامين علي ثورة يناير هذا ما يؤكده الدكتور أحمد البحيري استشاري الطب النفسي, لاننا مجتمع كبير يتعدي سكانه الـ80 مليون انسان في ظل غياب دراسات أو بيانات نفسية واجتماعية عميقة و جادة للمجتمع المصري والشخصية المصرية وهو أمر علي قدر كبير من الاهمية, فعلي سبيل المثال عندما قررت الولايات المتحدة غزو العراق رصدت قبلها بسنوات تمويل سخي لاجراء مئات الابحاث والدراسات شارك فيها عدد من اساتذة علم النفس والاجتماع في منطقة الشرق الاوسط لدراسة الشخصية العراقية وسلوكيات المجتمع العراقي وعلاقات التفاعل بين مكوناته من اكراد وسنة وشيعة قبل الاقدام علي احتلال العراق.
و لهذا يطالب البحيري بضرورة تخصيص العقد القادم في مصر لدراسة الشخصية المصرية وما طرأ عليها من تحولات بعد الثورة لفهم و تفسير سلوكيات المصريين بصورة علمية حتي يمكن التحكم في هذه الظواهر السلبية بصورة جازمة وتقليل نتائجها المدمرة بقدر الامكان.
وهناك تغيرات في ملامح الشخصية المصرية كما يراها الدكتور أحمد البحيري والتي اتخذت اشكالا منها الانفلات السلوكي وعدم احترام للكبير والصدام مع السلطة وهو ما أدي إلي مزيد من العنف في كل مكان في مصر سواء داخل التجمعات واماكن العمل وكان أكثرها وضوحا احداث بورسعيد وبغض النظر عن التحقيقات فقد كان هناك عنف متبادل من البداية وحتي لا نظلم الثورة فقد كانت هناك بعض الملامح منها اللامبالاة والانمالية وعدم الانتماء قبل الثورة وكان تفسير ذلك مقولة المصريين الدارجة هي إنها ليست بلدنا.
وبالرغم من أن الثورة أوجدت في بداياتها الكثير من الايجابية منها التوحد بين المصريين بعد أن جمعهم المصير الواحد خاصة الـ18 يوما الاولي من اندلاع الثورة حيث كان الهدف السائد خلالها هو اسقاط نظام مبارك, ولكن غياب هذه الايجابية و النخوة والشهامة بين المصريين الآن بعد مرور عامين علي الثورة فتعود إلي غياب الاستقرار وعدم القدرة علي حماية الاخرين لغياب السلطة القانونية أو عدم فاعليتها التي يمكن اللجوء اليها.
وخلال الفترة الماضية منذ بداية الثورة هناك ضغوط علي الافراد فما زالت مشاعرهم مستثارة رغم أن طبيعة الثورة عادة تمر بمنحني يبدأ قويا ثم يبدأ في التلاشي والضعف والثبات فحركة المشاعر لا تستمر عامين بنفس القوة فمثلا عندما تفقد شخصا عزيزا عليك فتبدأ بالاكتئاب ورفض الواقع في البداية بعدها تتقبل الوضع والنسيان, لكن بعد محاكمة مبارك بدأ الغضب يبرز من جديد ليبرز معادن الشخصية المصرية.
من ناحية أخري يؤكد البحيري أن معظمنا يحمل مشاعر الغضب والانفعال الثوري لكنها تختلف درجتها من شخص إلي آخر فحزب الكنبة لم يكن مستثارا مع بداية الثورة ولكن بعد ظهور سلبيات النطام السابق والحجم الهائل من الفساد الذي خلفه, تحرك حزب الكنبة بعد ان انتقلت لهم المشاعر الثورية من خلال الثوار والاحداث وتعرضهم للاحباط بسبب عدم تحقيق اهداف الثورة وتحسن احوالهم المعيشية بصورة متسارعة كما كانوا يتمنون مما دفعهم إلي محاولة اصلاح البلاد بطريقتهم الخاصة والتي ظهرت في اشكال تحد للسلطة والمظاهرات الفئوية وقطع الطرق وتخريب المنشئات العامة بعد انكسار حاجز الخوف لديهم وهو ما ادي إلي الفوضي وعدم احترام السلطة والقانون لذلك لابد من استبدال الخوف من السلطة بالخوف من القانون من خلال تطبيقه علي الجميع وأن يعلم أي شخص أن مخالفته تعني الفوضي وتراجع الانتاج.
ويقول الدكتور محمد المهدي استاذ الطب النفسي قبل الثورة كانت هناك أسباب تؤدي إلي شيوع التوتر بين المصريين أهمها انتشار العشوائيات التي أصبحت أحد سمات المجتمع المصري والتي يصاحبها الفقر والزحام الشديد وانخفاض مستويات التعليم وكانت بيئة تعزز السلوكيات المتردية وتطفح علي بقية المساحات السكانية للمجتمع المصري وكان يغذي هذه الاضطربات السلوكية تفشي الفساد الذي مارسه النظام السابق بطريقة ممنهجة.
ويضيف: هناك دراسات محلية ودولية رصدت استمرار تدهور سلوكيات وقيم المصريين بعد مرور عامين علي الثورة. وللاسف اكدت هذه الدراسات استمرار وجود العوامل التي كانت قبل الثورة فلم تتضح حتي الآن معالم النظام الجديد ولم تتغير بنية الدولة ولم تتحرك الدولة للاتجاه البنائي الصحيح وكل جهود الدولة مبعثرة.
ويتابع قائلا: لا تكفي حملات التوعية والندوات في تحسين سلوكيات وقيم المصريين التي لن تتغير الا بتهيئة الظروف لحياة سوية بمواصفاتها الصحيحة الخالية من الزحام والفوضي وهذا يتطلب اجراءات حقيقية علي الارض أولها اعادة هندسة وتخطيط القري والمدن الأمر الذي يحقق توزيعا متوازنا للسكان ويقضي علي العشوائيات ويمنح الفرد مساحة حضارية يتحرك فيها مما يمنع الاحتكاكات.
اما الفوضي التي يعيشها المجتمع المصري الآن فتعود إلي غياب الأمن الذي لم يتحسن إلا بنسبة30% فهناك اماكن عديدة لا يوجد بها رجل أمن أو مرور لردع المخالفين والخارجين علي القانون وهي ظواهر في حد ذاتها تعكس الفوضي.
اما العامل الثالث فهو كما يقول د.المهدي ضرورة تحسين الحالة الاقتصادية وتوفير الحياة الادمية لان انخفاض مستوي المعيشة يولد سلوكيات سلبية والفقر والاحتياج وتأخر اجراء هذه الاصلاحات سيزيد من السلوكيات الدخيلة علينا.
ويقسم الدكتور المهدي اصحاب الاعتصامات والاضرابات إلي نوعين الاول له مطالب حقيقية ويطالب بحقوق اساسية في الحياة اما الفريق الاخر فانه يحاول اثارة القلاقل وله حسابات وأهداف سياسية لكن هذا ليس وقت الثأر السياسي ومحاولة احداث بلبلة مدفوعة بأهداف سياسية.
من ناحية أخري يؤكد الدكتور أحمد جمال ماضي ابو العزايم الرئيس السابق للاتحاد العالمي للصحة النفسية أن الشخصية المصرية تمر بمرحلة عصيبة من المتناقضات بعد الخلاص من الطغيان الذي اكتوي بناره الجميع.. وهناك البعض الاخر فعاش علي البلطجة والعنف ليجد لقمة عيش ودرء الظلم و القهر عنه فتحول إلي شرير كل هذا حدث وفق خطة عبقرية ممنهجه ادارها النظام السابق ليصبح الفساد والعنف اسلوب حياة, كل ذلك افقد المجتمع الحلم في مستقبل عادل.
ويرفض الدكتور ابو العزايم الصاق جريمة البلطجة بالشخصية المصرية مؤكدا ان الشباب خلال الثورة لم يرتكبوا حوادث عنف رغم ان سيكولوجية الحشود تؤكد علي انها تؤدي إلي سرعة التحول للعنف وأن ما يحدث من اعمال عنف هو نتاج اشخاص ارتبطوا بالنظام السابق وهم بمئات الالوف ممنهجين علي العنف ولديهم قدرات تدميرية متأصلة في شخصيتهم وحفز سلوكهم بعض رجال الأعمال.
وهناك أهمية لدراسة سيكولوجية الحشود التي تحرك الأفراد وتتحكم في سلوكهم في أثناء وجودهم في المظاهرات, إذ أثبتت الدراسات العلمية أن الأفراد العاديين يتصرفون عادة بطريقة لا تعبر عن حقيقتهم, كأن يصبحوا عدوانيين ويلجأوا للعنف غير المبرر نتيجة اكتسابهم شعورا بالقوة الإضافية وهم ضمن الحشد.
وخلال الاعتصامات والاحتجاجات يصعب السيطرة والتحكم في أفعال المشاركين فيها فيجد الفرد نفسه مضطرا للتصرف كما يتصرف الآخرون دون وعي بأبعاد ونتائج أفعاله, حيث تتحرك الحشود وكأنها كتلة بشرية ضخمة, تتسارع فيها الأحداث بشكل غير مدروس أو غير مخطط له.
لهذا يطالب الدكتور ابو العزايم بانشاء المجلس القومي للسلام الاجتماعي ومنع العنف يتابع التغييرات السياسية الاجتماعية في المجتمع المصري و العنف الجماعي والصراعات والتوترات النفسية تختلف نتائجها وحدتها من وقت لاخر ودراسة فرص توظيف بناء لهذه الصراعات, ففي حالة افتقاد الوسائل الفعالة للتعامل مع هذه الصراعات في الوقت المناسب قد تتطور لحروب اهلية كما يطالب بتشكيل فرق عمل مجتمعية مدربة علي التعامل مع المظاهرات والاحتجاجات الفئوية ومهارات الوساطة والتفاوض من خلال استراتيجيات ووسائل جديدة تقوم علي التنبوء بالعنف وتشجيع الحل العادل وغير العنيف للصراع وبناء اجتماعي ملائم عادل ومستقر والتوفيق بين الانقسامات الاجتماعية العميقة و اجراء البحوث المختلفة للحد من الصراعات والعنف بكل انواعه داخل المجتمع.

Leave a Reply