أزمة التعليم .. لماذا؟ وما الحلول؟ (3)

سياسة التعليم والمناهج جوهر الأزمة
* مناهج التربية الإسلامية مساحتها أكبر من اللازم على حساب المواد العلمية والتطبيقية

إعداد د. فوزي أيوب
استاذ في الجامعة اللبنانية (متخصص في المناهج)
تبحث الحلقة الثالثة من دراسة القبس حول أزمة التعليم في الكويت، في السياسة التعليمية واهدافها، كما في المناهج المعتمدة، وتصل الى نتيجة بأن هذين العنصرين، هما جوهر الازمة التي يتخبط فيها التعليم، طبعا اضافة الى المناخ الاستهلاكي السائد في الأسرة الكويتية، مما يؤدي الى عدم اهتمامها الكافي بالتعليم، ومتابعة أولادها.

إلى المشكلة النوعية الخاصة بثنائية الأحادية والتعددية في نظام التعليم الكويتي والعربي، توجد مشكلة كمية تتعلق بالتثقيل الذي يليق بكل مقرر دراسي في التعليم العام. فقد وجد التربويون أن أزمة المناهج الدراسية تأتي في الدرجة الثانية، بعد أزمة سياسة التعليم، بين مكونات الأزمة التربوية العامة في الكويت. ولعل أبرز عنصر في أزمة المناهج هو ما يخص مناهج التربية الدينية الإسلامية التي يوجد انطباع عام بأنها تحتل مساحة أكبر من اللازم في مناهج التعليم العام، وأن ذلك لا بد أن يكون على حساب جوانب أخرى من التعليم، خاصة تعليم المواد العلمية والتطبيقية.
كان السؤال المطروح هو: كيف تنظر الى الحيز الكبير الذي تحتله مقررات التربية الإسلامية في التعليم، وتأثير ذلك في التحصيل الدراسي العام للطالب الكويتي؟ وبالطبع فالمسألة المطروحة لا تتعلق بتدريس التربية الإسلامية من عدمه، بل تتعلق بالحجم الطبيعي لهذا المقرر وبالتوازن بين المقررات الدراسية التي يتعلمها التلميذ. ولقد أظهرت ردود التربويين أن هذا الموضوع يشكل أحد مظاهر أزمة التعليم في الكويت لأن معظمهم كان لديه موقف سلبي تجاه الحجم الكبير للمواد الدينية في التعليم الكويتي العام.
وجد %77 من المختصين في العلوم التربوية في الكويت ان تعليم التربية الإسلامية لا يعطي نتيجة إجمالية جيدة، إذ اعتبر %41 منهم أن هذا التعليم ذو فائدة محدودة (مفيد إلى حد ما)، واعتبر %32 أنه تعليم قليل الفائدة، بينما قال %5 من التربويين ان كثرة المادة الدراسية الدينية تحد من دراسة العلوم في المدرسة. ووجدت أغلبية التربويين أن التوسع في تدريس المقررات الدينية يضيق المجال أمام تعليم المواد الدراسية الأخرى، ويعيق عملية تحديث المناهج وجعلها أكثر عصرية وانسجاماً مع التعليم السائد في الدول المتقدمة من العالم.
أقل من ربع المستفتين الخبراء في أمور التربية والتعليم في الكويت (%23 فقط) وجدوا أن مقررات التربية الإسلامية مفيدة جداً، وقدموا لذلك مبررات كلاسيكية أبرزها أن الكويت دولة عربية مسلمة ومن المهم، تبعاً لذلك، العمل على غرس القيم الإسلامية فيها، وتوضيح بعض المفاهيم والمعتقدات الدينية في المدرسة. وأضاف البعض أنه توجد حاجة للتصدي للهجمات الغربية الشرسة عبر التمسك بالعقيدة الإسلامية.

لا تصمد
لا تصمد هذه المبررات، في الواقع، أمام التحليل الموضوعي، لأن المطروح أصلاً ليس إلغاء التعليم الديني بل اعتماد أو اختيار تعليم ديني إسلامي نوعي معد خصيصاً ليلبي حاجات التلاميذ من الثقافة الإسلامية المدرسية، ويلائم عقولهم من دون إفراط أو تفريط. وهذا التوجه يلتقي مع ما يطرحه كثير من المثقفين الكويتيين الذين أصبحوا يميلون إلى استخلاص صيغة مدرسية خاصة من التربية الإسلامية يدرسها التلاميذ ويشارك في إنتاجها تربويون مختصون، إلى جانب أساتذة العلوم الدينية، لانتقاء الموضوعات الإسلامية التعليمية المناسبة وأسلوب عرضها وتقديمها للتلاميذ، مع إدخال عنصر المحاورة والنقاش إلى درس التربية الإسلامية حتى لا يتحول إلى مجموعة من المعلومات المفروضة على التلميذ من دون أي تفاعل من جانبه، وهذا هو جوهر التلقين وتحفيظ المعلومات الذي تجاوزته التربية الحديثة منذ عقود من الزمن.
لا للإلغاء
ويلتقي المفكر الكويتي أحمد البغدادي مع هذا التوجه، مؤكداً أن نقد مناهج التعليم الديني الحالية لا يعني الدعوة إلى إلغاء التربية الإسلامية: «نحن لا نريد إلغاء التربية الدينية فهي مطلوبة وأساسية، ولكن يتعين علينا أن نرتقي بالموضوع التعليمي، وأن نركز على تعليم القيم والأخلاق، وأن نستفيد في ذلك من الآيات القرآنية ومن حياة الرسول وسيرته ومن خلال التاريخ الإسلامي». (القبس 2010/4/24)
أي نوع
إن الكويت دولة عربية مسلمة، وسوف تبقى كذلك إن شاء الله، ولكن مع أي نوعية من التعليم الديني والدنيوي نريدها أن تكون؟ أما توسل المدرسة لغرس القيم الدينية، فالمدرسة ليست هي الحقل الأساسي لغرس القيم، إذ إن الأسرة تسبقها كثيراً في ذلك، مع فارق مهم هو أن الأسرة لا تستطيع تعليم العلوم والتكنولوجيا واللغات الأجنبية للأولاد، بينما المدرسة وحدها تستطيع ذلك، ومن المنطقي إذاً في هذه الحالة أن تركز المدرسة على تدريس العلوم مع مقدار من التوجيه الديني الإضافي (على توجيه الأسرة)، بينما تركز الأسرة على غرس القيم الإسلامية في نفوس الأبناء بمساعدة خارجية عند الحاجة، وهذا هو التوازن الأفضل في تقسيم العمل والأدوار بين المؤسسة التعليمية (المدرسة) والمؤسسة العائلية (الأسرة)، وفي توفير تعليم فعال ومتوازن للناشئة.
لا للانغلاق
أما مهمة توضيح بعض المعتقدات والمفاهيم، فإنها مطلوبة وممكنة في المدرسة، لأن التعليم المدرسي ممنهج ودقيق، ولكن يجب أن يركز على الموضوعات والمسائل الدينية التي تعجز الأسرة الكويتية العادية عن حلها ومعالجتها، بدل أن يركز على ما هو معروف أصلاً من التلاميذ في بيوتهم وبدل أن يلزم نفسه بما لا لزوم له من الأساس. وبالنسبة لفكرة تكثيف التعليم الديني والتمسك الشديد بالعقيدة من أجل التصدي للهجمات الشرسة، فإنها فكرة تبسيطية قاصرة، لأن التصدي للهجمات الاستعمارية الشرسة لا يكون بالإنغلاق على الذات الدينية، بل يكون بتحقيق التفوق الحضاري والعلمي والصناعي، وبامتلاك أسباب القوة والغلبة ووسائلها، وبإقامة مجتمعات حرة لمواطنين أحرار يعرفون حقوقهم وواجباتهم، وينهضون بمسؤوليتهم في التنمية والعمل والدفاع عن الوطن والأمة ومواجهة العدوان والظلم.
وفي المقابل، جاءت المبررات التي قدمها التربويون الناقدون لثقل التعليم الديني الكمي أكثر صدقية ودقة، فقد لاحظ هؤلاء أن التعليم الديني النظري عبر النصوص لا يؤدي حكماً الى غرس القيم والأخلاق في النفوس، لأن النصوص غير مصاغة بطريقة تؤدي بالمتعلم إلى اكتساب سلوكيات محددة، ولأن التعليم الديني قائم على الحفظ والتلقين، ثم ينسى التلاميذ كل ذلك أو معظمه بعد ذلك.
لا تنوع
ومن المبررات الرئيسية التي قدمها التربويون لآرائهم السلبية تجاه مقررات التربية الإسلامية، أن مضمون هذه المقررات يخلو من أي تنوع في الاجتهادات الفقهية، أو من أي شكل من أشكال التعددية الفقهية، كما أن هذا التعليم لا يعترف بوجود الآخر الذي له رأي مختلف وغير ملزم لأحد في الأمور الدينية.
ومن جهة أخرى، لاحظ قسم من التربويين أن المجتمع الكويتي مسلم بطبعه وتاريخه فلا حاجة لجرعات زائدة من التعليم الديني للصغار. وأي متابعة لمضامين كتب التربية الإسلامية سوف تكشف أن الجرعات الزائدة عن المستوى المدرسي موجودة على نطاق واسع في هذه الكتب، وهي تتخذ شكل التكرار في الموضوع نفسه أكثر من مرة، أو التداخل بين الدروس، أو معالجة موضوعات بديهية لا حاجة للحديث عنها أصلاً، أو موضوعات متخصصة ليس من واجب الصغار أن يخوضوا فيها، لأنها جديرة بطلبة العلوم الشرعية في المدارس والمعاهد الدينية وكليات الشريعة. إن هذا التحليل الوارد على ألسنة التربويين المختصين في الكويت يصف واقع التربية الإسلامية المدرسية في هذا البلد بأمانة ودقة، ولذلك فإننا لا نرى حاجة لنقده والتعليق عليه.

الإرشاد النفسي يتعثر.. والدراسي معدوم
من المؤكد أن للأزمة التربوية العامة في الكويت مظاهر متعددة تطرقنا إلى بعضها، وننتقل إلى مظاهر أخرى تتعلق بعملية الإرشاد المدرسي والتوجيه المهني في المدارس، وأداء المعلم، وتأثير الحياة الاستهلاكية والرفاه على التحصيل الدراسي للتلاميذ في المجتمع الكويتي.
سألنا التربويين المستفتين عن مدى الحاجة إلى تفعيل خدمة الإرشاد النفسي المدرسي وخدمة التوجيه الدراسي والمهني في التعليم العام في الكويت. وقد وجدنا أن الغالبية العظمى منهم ترى حاجة كبيرة إلى تفعيل هذه الخدمات في شقيها الإرشادي والتوجيهي معاً، ولم يقل أحد منهم انه لا حاجة إلى هذه الخدمات. والوجه الآخر لشعور حوالي %91 من التربويين بأنه توجد حاجة كبيرة إلى تفعيل خدمات الإرشاد والتوجيه يتمثل في حالة الجمود والضعف التي تضرب هذه الخدمات في نظام التعليم الكويتي منذ سنوات عديدة. هذا الواقع المتردي لخدمة الإرشاد والتوجيه هو أمر مثير للعجب في بلد مثل الكويت يتمتع بالموارد المالية الكافية، وفيه نخبة لا بأس بها من المختصين النفسيين والتربويين، كما أنه يمكن أن يتعاقد مع أفضل الخبرات العربية في علم النفس المدرسي، وهي وافرة وكافية إلى حد بعيد. وإذا كانت وزارة التربية قد بذلت جهوداً كبيرة في السنوات السابقة من أجل توفير الخدمة النفسية والاجتماعية (خدمة الإرشاد النفسي) للتلاميذ قبل أن تتعثر هذه الجهود – في الآونة الأخيرة، فإن خدمة التوجيه الدراسي – المهني لطلاب التعليم المتوسط والثانوي خاصة تكاد تكون غائبة عن المشهد التعليمي في الكويت رغم الحاجة الشديدة إليها، ورغم أهمية ذلك بالنسبة للطلاب والجامعات وسوق العمل أيضاً.

بنية تحتية
من الناحية العملية تمتلك وزارة التربية بنية تحتية وإدارية كاملة لتقديم خدمات الإرشاد والتوجيه المطلوبة في التعليم الحكومي في الكويت. ففي مبنى الوزارة توجد إدارة خاصة للخدمات الاجتماعية والنفسية، وفيها أيضاً إدارة للقياس والتقويم تضم قسماً خاصاً للاختبارات والمقاييس النفسية والتربوية. وهناك أيضاً كادر من الاختصاصيين النفسيين والاجتماعيين الموظفين في الوزارة، ولا ينقص سوى تفعيل دور وعمل هؤلاء الاختصاصيين وتحريك ادارة الخدمات النفسية والاجتماعية في الوزارة بعد تلبية مطالبها وحاجاتها من الاختصاصيين والخبراء في مجال الخدمة النفسية – التربوية.

زيارة
قمنا بزيارة ميدانية الى مقر ادارة الخدمات الاجتماعية والنفسية في وزارة التربية في مايو 2010 فوجدنا انه يضم مكاتب عديدة مجهزة جيداً، وتعمل فيها موظفات عديدات مع ادارة حيوية يغلب عليها الطابع النسائي. ويمتلك مركز الخدمات النفسية والاجتماعية في الوزارة تشكيلة واسعة ومتميزة من ادوات القياس والتقويم اللازمة في خدمة الارشاد والتوجيه مثل روائز الذكاء وروائز الشخصية واختبارات الميول المهنية والتحصيل الدراسي. وبعض هذه الاختبارات من نوعية متقدمة قد لا نجدها في بقية الدول العربية مثل «قياس وكسلر الكويت لذكاء الاطفال - الاصدار الثالث» واختبار الميول المهنية لطلبة المرحلة الثانوية.
هذه الادوات وغيرها مما تمتلكه دوائر وزارة التربية في الكويت هي ادوات فعالة في توفير خدمات الارشاد النفسي والتوجيه الدراسي – المهني للطلاب، وقد قمنا بتطبيق الاختبارين المشار اليهما على عينة من الطلاب اللبنانيين على يد مجموعة من طلبة الدراسات العليا في علم النفس في الجامعة اللبنانية، وفي الجامعة الاسلامية في خلدة، وكانت صدقية النتائج عالية جداً مما يشير الى الفعالية الكبيرة لهاتين الادارتين المطورتين في الكويت لقياس ذكاء الاولاد ولتحديد الميول المهنية للطلاب.
ليست ترفاً
تجدر الاشارة في هذا المجال الى ان الخدمات النفسية والتربوية في المدرسة لم تعد ترفا يمكن الاستغناء عنه وهي متوافرة في كل المدارس الاوروبية والاميركية وفي المدارس الخاصة الراقية في البلدان العربية. فالمرشد النفسي (Coumselor) يوفر الرعاية النفسية للتلاميذ ويساعد في حل مشكلاتهم السلوكية والدراسية، والموجه الدراسي المهني يساعدهم في التعليم المتوسط والثانوي خاصة، على معرفة ميولهم المهنية الحقيقية بحيث يتوجه الطالب نحو نوع الدراسة التي تؤدي الى مهنة تتوافق مع شخصيته ومع متطلبات سوق العمل.

نجاة
فكم من تلميذ نجا من الرسوب والفشل الدراسي بفضل مقابلة مع المرشد المدرسي، وكم من تلميذ زاد تحصيله الدراسي لان المرشد ساعده في حل مشكلة نفسية او عائلية كان يعانيها، وكم من طالب اختار فرعاً دراسياً او تخصصاً جامعياً لا يتوافق مع ميوله الطبيعية ولا يناسب شخصيته فأصبحت حياته المهنية لاحقاً مملة خالية من الابداع والرضا الوظيفي لانه لم يكن يحب المهنة التي دخل الى عالمها عشوائياً او بالصدفة او لاعتبارات لا تمت الى خصائصه النفسية بصلة!
الكثير من هذه المنزلقات يمكن تفاديها عندما يقوم المرشد النفسي بدوره في المدرسة، حيث يكون له مكتبه الخاص الذي يستقبل فيه الطلاب والمعلمين والاهل للتعاون معهم من اجل توفير المواكبة النفسية والعائلية للتلميذ بموازاة المواكبة التعليمية التي يوفرها المعلمون، ولكن للاسف فإن الواقع الميداني للخدمة النفسية في مدارس الكويت يلفه الجمود وقلة الفعالية منذ سنوات طويلة، مع ان الحاجة الى هذه الخدمة كبيرة جداً وسط بيئة مدرسية سلبية «طاردة ومنفَّرة للتلاميذ»، كما يقول المختصون العاملون في هذه المدارس، وكما يقول المسؤولون عن خدمة الارشاد انفسهم.
وإذا كان الخلل في تأدية الخدمات الارشادية النفسية في الكويت امراً واضح المعالم، فإن الاداء الحالي للمعلم الكويتي يثير لغطا كبيراً حول توصيفه، وهل هو اداء فاعل ام ضعيف؟ هذا السؤال طرحناه على المختصين التربويين الذين يقومون بتأهيل المعلم الكويتي وليس على المعلمين انفسهم حتى تكون الاجابات موضوعية قدر الامكان، فتبين لنا ان هناك اختلافاً واضحاً في تقدير عمل المعلم الكويتي وأدائه بين صفوف التربويين. كما هو مبين في الجدول رقم (1).

تشتت وانقسام
هناك تشتت واضح وانقسام ملحوظ بين التربويين في إجاباتهم عن اداء المعلم الكويتي، مع أن القسم الأكبر منهم رأى أن هذا الاداء يقع في خانة الوسط او المقبول (%41)، وبينما تقاربت النظرة بين من رأى أن اداء المعلم الكويتي جيد (%27) ومن رأى ان اداءه ضعيف (%23) لم يجد ان عمل المعلم الكويتي ممتاز سوى %9 من التربويين.
هذه النظرة التقويمية للاداء الحالي للمعلم من جانب التربويين المختصين، الذين تولوا اعداد معظم المعلمين الكويتيين ويعرفونهم جيداً، تعكس صورة عادية جداً لأداء هؤلاء المعلمين تخلو من التقدير العالي لهذا الاداء دون القول، مع ذلك، فإن المعلم الكويتي يفتقر الى الكفاءة المهنية في عمله، فالمحصلة العامة لآراء التربويين هي ان اداء المعلم الكويتي يقع في مستوى الوسط او اكثر من الوسط بقليل. وما يؤكد هذا المنحى في رؤية التربويين الضمنية لاداء المعلم في الكويت ان تبريراتهم للاجوبة التي قدموها صبّت كلها في مسار واحد هو مسار سلبيات اداء المعلم وتفسيرها مع تأويل الاسباب الكامنة وراء التراجع النسبي لاداء المعلمين في الكويت. ومعظم من قدموا تأويلات لهذا التراجع، إما انهم قالوا إن المسؤولية في ذلك تقع على عاتق المعلم، أو أنهم اعتبروا ان تلك المسؤولية يتحمّلها نظام التعليم الكويتي في تعامله مع المعلمين او بسبب قلة فعالية عملية اعداد المعلمين وتأهيلهم في هذا النظام.

الاستهلاك والحياة السهلة يسيطران على المناهج
الأسرة الكويتية استهلاكية غير مكافحة

* الأسرة ينبغي أن تسبق المدرسة في غرس القيم
* على المدرسة ان تركز على المسائل غير المعروفة في البيت والأسرة
إن الازمة العامة للتعليم في الكويت بمظاهرها المتعددة لها ابعاد اجتماعية - ايضاً - تتمثل في سيطرة النزعة الاستهلاكية والسعي وراء الرفاهية والحياة السهلة، مما قد يترك آثاراً سلبية في التحصيل الدراسي للتلاميذ ونوعية هذا التحصيل وجودته، وفي هذا المجال توجهنا بالسؤال التالي الى التربويين: في مجتمع الرفاهية والرخاء الحالي، حيث تقوم فلسفة الفرد على اساس بذل الجهد الاقل، وطلب العائد الاكبر مع الميل الى الاستهلاك المفتوح، هل ترون انه يمكن فعلا بناء تعليم منتج ومتطور قادر ع‍لى منافسة مخرجات التعليم في الدول الاخرى؟
اغلب التربويين المستفتين (%54 منهم) رأوا انه يمكن بناء نظام تعليمي منتج ومتطور في مجتمع الرفاهية والاستهلاك مقابل %36 ممن وجدوا انه لا يمكن ذلك، ورأى %9 من التربويين انه يمكن - الى حد ما - تحقيق التعليم الفاعل والمتطور في الكويت رغم حالة الاسترخاء الاستهلاكي السائدة في المجتمع.
ان غالبية التربويين يرون اذاً، ان حالة الرفاه المعيشي لا تشكل عائقا امام التعليم المتطور والمنتج، ويستند هؤلاء التربويون المتفائلون في تقديرهم الى عدة اعتبارات، ابرزها ان لدى الدولة في الكويت قدرة مادية (مالية) كافية لاقامة تعليم متطور جداً، شريطة وضع اهداف واضحة للعملية التربوية ووضع برامج لتحقيق هذه الاهداف، على ان يكون الاصلاح الشامل منسجما مع المعايير التربوية العالمية.
اما الواقعيون من التربويين ممن قالوا انه لا يمكن الجمع بين حالة الاسترخاء والرفاه الاجتماعي وبين التعليم المنتج والمتطور، فقد استندوا الى واقع انه لا توجد صناعة حقيقية او زراعة او اقتصاد منتج يتعدى نطاق النفط في الكويت، كما انه لا توجد سياسة تربوية هادفة، ولا يوجد تخطيط تربوي على المديين المتوسط والبعيد.
ومن الطبيعي في واقع الرخاء النفطي والنعيم الاقتصادي ان يتوقع الناس حصولهم على الثروة ورغد العيش حتى لو لم يبذلوا جهداً يذكر في سبيل ذلك، والمشكلة هي ان ذهنية متواكلة كهذه لا بد ان تؤثر سلباً في التحصيل الدراسي والعلمي للتلاميذ وفي الاداء التعليمي للمعلمين ولنظام التعليم بكامله.
ففي محاضرة عن «الكسل والمزاجية» رأت الباحثة الكويتية لطيفة الكندري ان انماط المعيشة الحديثة في المجتمع الكويتي تنشر الكسل بين الاطفال، وان التلفاز والكمبيوتر والوجبات السريعة الجالبة للخمول، والاعتماد على الخدم وكثرة النوم تجعل الفرد يؤثر الدعة والراحة والابتعاد عن بذل الجهد والتراخي في تأدية الاعمال وغير ذلك من مظاهر الهمة القليلة (القبس - أبريل 2009).

حالة التواكل
وحالة التواكل الناجمة عن البحبوحة الاقتصادية ليست حكراً على المجتمع الكويتي بل هي تطول كل مجتمعات الوفرة والرفاه في المنطقة والعالم، فالإنسان الكويتي ليس كسولاً وليس اتكالياً بطبعه، بدليل أنه لم يكن كذلك في مرحلة ما قبل الطفرة النفطية، عندما كان يغالب الصحراء ويغوص في أعماق البحر سعياً وراء العيش الكريم، وبدليل أن في المجتمع الكويتي اليوم نسبة معتبرة ممن يعملون بجد ونجاح في التجارة وغيرها، ويقبلون على العلم والعمل، بل ويبدعون في مجالات معينة، ولكن بجانب هذه الصورة الإيجابية، توجد صورة سلبية عن شريحة واسعة من الشباب الكويتي العازف عن الدراسة الجدية والعمل المنتج، والذي يسعى وراء شهادة تؤمن له وظيفة مريحة وراتباً لا أكثر. وإذا كانت حياة الرفاه الاقتصادي من مسببات حالة التراخي في الدراسة والعمل وفي بذل الجهد المادي والفكري عند الفرد في الكويت، فإن دخول الأسرة الكويتية إلى عالم الاستهلاك السهل والشامل، واعتمادها المتزايد على الثروة الجاهزة (ريع النفط) البعيدة عن عالم الإنتاج الوطني يمكن أن يفاقم بدوره أزمة التعليم لأسباب متعددة، لأن الأسرة هي التي «تنتج» الأولاد وترسلهم إلى المدرسة وتواكب نشاطهم التعليمي يوماً بعد يوم.

قيمة العلم
فإذا كان المناخ السائد في الأسرة استهلاكياً ولا يقيم وزناً للقيم العليا مثل قيمة العلم والدراسة، فإنه من المرجح ألا يهتم الأبناء كثيراً بعملهم المدرسي الذي له قيمة منخفضة عند الأهل. وعلى عكس ذلك، فإن الدراسات التربوية أجمعت على أن ثقافة الأهل، خصوصاً الأم، والاستقرار النفسي والاجتماعي للأسرة لهما دور حاسم في التحصيل الدراسي للتلاميذ، وفي نجاحهم في المدرسة. ومظاهر الدور التربوي للأسرة كثيرة، نذكر أبرزها في مايلي:
ــــــ تقوية الدافعية للتعليم عند الأبناء وغرس القيم الإيجابية في نفوسهم تجاه العلم والاجتهاد في الحياة.
ــــــ اعتماد مبدأ الثواب والعقاب في التعامل مع الأبناء (والبنات) وحثهم على تقديم أفضل ما عندهم من أداء تعليمي.
ــــــ توفير الرعاية النفسية والوجدانية للأولاد والتواصل الدائم مع المدرسة مباشرة مع الإدارة والمعلمين أو عبر لجنة الأهل في المدرسة.
ــــــ متابعة الواجبات الدراسية المنزلية للأبناء.
هذا الدور التربوي المهم للأسرة لا يمكن أن يتحقق إلا على يد أسرة ذات مواصفات معينة، فإلى أي مدى تتوافر هذه المواصفات المطلوبة، وفي الأسرة الكويتية حالياً؟ هذا السؤال طرحناه على نخبة من التربويين في الكويت، لمعرفة ما إذا كانت الأسرة الجديدة في الكويت جزءاً من أزمة التعليم، أم جزءاً من حل ممكن لهذه المشكلة، ويمثل الجدول رقم (2) خلاصة موقفهم من هذا الموضوع.
إن أغلبية كبرى من التربويين (%68) تجد أن الأسرة الكويتية الحالية هي أسرة استهلاكية. وبالتالي، فإن الأيديولوجيا السائدة في هذا النمط من الأسر ترجح أن تكون بعيدة عن قيم المثابرة وبذل الجهد بأنواعه، بما في ذلك الجهد الدراسي، ومما يؤكد هذا التوصيف للأسرة في الكويت أن أياً من التربويين لم يقل عنها إنها «مكافحة»، وهذا أمر مقلق في حد ذاته، لأن النجاح والتفوق في الدراسة إنما ينجمان عن المثابرة والكفاح، وإذا غابت هذه الروحية ستكون مخرجات التعليم ضعيفة المستوى، ويصبح نظام التعليم برمته في أزمة بنيوية يصعب حلها من خلال إجراءات عادية، وهذا هو واقع الحال مع التعليم العام في الكويت.

أكثر وعياً
من جهة ثانية، لم تقل سوى قلة من المستفتين (14 % فقط) إن الأسرة الكويتية اليوم أكثر وعياً وثقافة من الأسرة القديمة، فالرأي الغالب هو أن وعي الأسرة الكويتية بقي على حاله تقريباً مع نسبة تحسن قليلة تحققت في أيامنا، ومن الطبيعي في حالة كهذه ألا يحرز نظام التعليم تقدماً كبيراً على طريق النجاح والكفاءة في الإنتاجية التربوية، وهو ما ظهر مرة تلو أخرى عند مشاركة طلاب كويتيين في مسابقات أولية، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.

اهتمام
ومما يزيد الطين بلة أن نخبة التربويين لا تنظر بصورة إيجابية إلى مسألة اهتمام الأسرة بتعليم الأبناء والبنات، لأن 18 % فقط من هذه النخبة قالوا إن الأسرة في الكويت تهتم بدرجة متوسطة بتعليم الأولاد، لم يقل أحد إن هذه الأسرة تهتم كثيراً بالتعليم، كما أن أحداً من التربويين لم يقل إنها لا تهتم بتعليم الأبناء. وخلاصة الرأي في أحوال الأسرة الكويتية ودورها الحالي أنها أسرة استهلاكية غير مكافحة، تهتم قليلاً بدراسة أولادها، وهذا التوصيف أقرب إلى أن يضع الأسرة بين مسببات أزمة التعليم وليس بين عوامل حل هذه الأزمة.

كليات التربية بحاجة إلى إعادة نظر
الفريق الذي رمى بمسؤولية الخلل في اداء المعلم على عاتق وزارة التربية والسياسة التربوية للحكومات الكويتية المتعاقبة، انطلق من الاعتبارات الآتية:
1- ان اصلاح التعليم العام والجامعي من شأنه ان يصلح مخرجات التعليم، فلو كان التعليم الذي توفره وزارة التربية في مدارسها وجامعاتها جيداً، لما عانى المعلم من اي نقص في مهاراته وكفاياته التعليمية.
2- ان القوانين المؤطرة لعمل المعلمين في الكويت لا تلحظ تقديم تحفيزات حقيقية للمعلم على الاداء الجيد، او المميز الذي يقدمه.
3- ان المعلم بحاجة لكثير من التأهيل قبل ان يدخل الخدمة الفعلية، والى كثير من التدريب المستمر بعد دخوله الى الخدمة في المدارس.
4- ان عمل كليات التربية في الكويت بحاجة الى اعادة نظر تطول الاعداد النظري والتأهيل العملي للطلبة الذين يدرسون في هذه الكليات، كما تطول شروط قبول الطلاب المرشحين لمهنة التعليم.

معلمون كويتيون يعتبرون التعليم وظيفة.. ومجرد حملة شهادات
الفريق الذي حمل مسؤولية التراجع في جودة الأداء التعليمي للمعلم الكويتي انطلق من الاعتبارات الآتية:
1- ان المعلم الكويتي لا يبذل أقصى جهده في التدريس ولا يواجه المشكلات التربوية التي يعانيها التلاميذ لأنه لا يتوقع مقابلاً لذلك من وزارة التربية.
2- ان المعلم يلجأ غالباً الى المجاملات في مواجهته التحديات التي يقابلها في تعامله مع ادارة المدرسة، أو مع المعلمين الآخرين أو مع أولياء أمور التلاميذ أو مع الموجهين الفنيين في التخصص الذي يقوم بتدريسه.
3- ان كثيراً من المعلمين لا توجد عندهم قناعة بعملهم في التدريس الذين ينظرون اليه كوظيفة عامة لا أكثر وليس كعمل فني محترف.
4- ان حقوق المعلم الكويتي المادية «مهدورة» ولا يحصل على الراتب الذي يستحقه لقاء عمله في وزارة التربية، وهو مما يؤدي غالباً الى حالة من عدم الرضا الوظيفي لدى جمهور واسع من المعلمين.
5- ان جانباً من المعلمين هم «مجرد حملة شهادات أكاديمية من دون مضمون علمي حقيقي».

كل هذه المعطيات بشأن مستوى اداء المعلم الكويتي تشير، في محصلتها العامة، الى ان الازمة الخاصة بالمعلم هي جزء مهم من الازمة التربوية العامة لنظام التعليم الكويتي، وسوف نقوم لاحقا بمعالجة تفصيلية لازمة المعلم في الكويت، عبر تقويم المعلمين لانفسهم في استبانة خاصة .

الحلقة الرابعة غدا:
نظام التعليم يتدهور منذ عشرين عاماً

Leave a Reply