ترى ماذا جري؟ لقد استمعت كثيرا وتعاطفت كثيرا مع أطراف متناقضة؛ فلكل طرف مبرراته التى تبدو مقنعة وحقوقه التى تبدو مشروعة بل حتى مقدسة وضحاياه التى يطالب بثأرها والقصاص لها.
وعدت لتراث علم النفس السياسى لعلى أجد تفسيرا لمثل ذلك الصراع المتغلغل فى بنى المجتمع؛ ولم أجد من تفسير سوى فيما يعرف بالصراعات الممتدة Protracted conflicts ومنها صراع الهوية الذى يدور حول تدريج الانتماءات وتحديد ملامح «النحن». صراع يمتد إلى ما هو أبعد كثيرا من الزعماء السياسيين وصناع الرأى ليصل إلى أفراد المجتمع، ويصبح جزءًا من الأغانى والأدب، بل وحتى من اللغة. وتصبح الأحداث العنيفة جزءًا من التاريخ الشخصى بالنسبة لأبناء أطراف الصراع، إلى حد أن ممارساتهم أفراحهم وأتراحهم واحتفالاتهم الدينية لا تخلو من تداعيات متصلة بالصراع، ولو حاولنا ترتيب الجماعات الأساسية التى ننتمى إليها وفقا لأهميتها بالنسبة لنا ولمدى تأثيرها على اتخاذنا قراراتنا، لواجهنا موقفا مربكا: ترى هل عروبتنا تعلو على انتمائنا لدولنا؟ و هل عقيدتنا تعلو عليهما؟.
قد يبدو الأمر كله للبعض محض تزيد، فما الذى يدعونا لمجرد التفكير فى مثل ذلك الأمر المثير للارتباك؟ و من قال أن ثمة تعارضا بين عروبتنا وعقيدتنا و انتمائنا لدولنا؟ أليس الأفضل أن نحيا بانتماءاتنا كلها دون ذلك التدرج؟.
أجل ذلك هو الأفضل بالفعل ولكن تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن، فكثيرا ما تضعنا الحياة فى مواقف نجد أنفسنا فيها حيال اختيارات صعبة بين الانتماء للدولة والانتماء للعقيدة والانتماء للعروبة. ولعلنا لا نبالغ إذا ما قلنا أن جوهر التهديدات التى يواجهها عالمنا العربى فى هذا العصر الذى يموج بالتغيرات تتمثل من الناحية النفسية فيما يمكن أن نطلق عليه: تعديل تدريج الانتماءات.
إن البشرية لم تعرف عصرا خلوا من الضغوط والمتغيرات والاضطرابات؛ و عصرنا ليس استثناء. مشكلات العصر عديدة. من وباء الإيبولا إلى تلوث البيئة إلى مشكلات التنمية إلى مشكلات الإرهاب إلى آخره. ولكن قضية صراع الانتماءات تعد فيما أري- رابطة العقد فيما يعانيه عالمنا العربى فى هذا العصر؛ فمن رحم تلك القضية تنفجر مشكلات الإرهاب والتعصب والانغلاق ومقاومة التغيير، وغيرها من مشكلات تعوق التنمية والتقدم العلمى إلى آخره. وتقع قضية صراع الانتماءات على رأس اهتمامات علماء النفس السياسي، فضلا عن أنها تمثل بالنسبة لعلماء النفس العرب تحديا خاصا باعتبارهم الأكثر قدرة على التصدى لموضوع يؤثر على وجود أوطانهم قبل أن يؤثر على إنجازاتهم العلمية.
ولعل أولى الحقائق التى ينبغى الإشارة إليها فى مسألة تشكيل الهوية، أن الوليد الإنسانى لا بد وأن يعتمد فى بقائه حيّا على آخرين من أبناء الجيل الأكبر، و لا يقتصر أولئك «الكبار» على الأب والأم فحسب، بل يتسع النطاق ليشمل كل نماذج السلطة فى المجتمع من المدرسين إلى رجال الدين إلى الإعلاميين و الحكام، وخلال ذلك يكون قد تم التدريب على عملية الانتماء لجماعات «النحن» القومية و الدينية و السياسية كما صاغها هؤلاء، وإن كانت عمليات تأكيد أو تعديل أو حتى إلغاء الانتماء تظل مستمرة طوال الحياة.
ولا تعتمد عملية التدريب على الانتماء لجماعات «النحن» على نقل المعلومات المباشرة بطريقة أو بأخري، بل إنها عملية اكتساب تلقائى يتحدد تأثر الفرد بها وفقًا لثلاثة عوامل رئيسية: عامل القدوة، وعامل الخبرات الشخصية المباشرة، وعامل التدريب الاجتماعى على رؤية العالم.
لا يلتمس الصغار الإجابة عن تساؤلاتهم من خلال أقوال نماذج السلطة فحسب، بل من خلال معايشتهم لممارسات هؤلاء باعتبارهم القدوة، ومن ثم فقد تكون أقوال نماذج السلطة عن أبناء جماعة أخرى - أقلية كانت أو أغلبية - متناقضة مع سلوكهم الفعلى حيال أبناء تلك الجماعة؛ مما يرسخ فى وعى هؤلاء الصغار أن عليهم إظهار غير ما يبطنون حيال أبناء الجماعات «الشريرة» تأدبا أو خوفا وأن يظلوا على كراهيتهم لهم، وتظل تلك الكراهية مكتومة تنخر فى الجذور إلى أن تنفجر أو يتم تفجيرها فى صورة صراعات الهوية.
وتميل كثير من الجماعات القومية إلى تدريب الأبناء على رؤية غالبية البشر باعتبارهم صنفين: طيبين أو أشرارا, و لا مجال للتدرج بين هذا وذاك، فلا مجال لأن نضع أنفسنا موضع الآخرين ليتبين لنا كيف؟ ولماذا؟ هم مختلفون عنا. وما هى درجة الاختلاف؟.
كانت تلك ومازالت هى الملامح الأساسية لتشكل نشأة الهوية. و لكن ترى لماذا فى عصرنا هذا بالذات يتفجر صراع الهويات؟ أو إذا شئنا الدقة يتم تفجير ذلك الصراع؟.