باريس | تحتفي الجزائر هذه الأيّام بذكرى أحد أبرز أعلامها ومثقفيها. إنّه المفكر والمناضل ذو الأصل المارتينيكي، فرانز فانون (1925 ـــ1961) الذي تمرّ اليوم الذكرى الخمسون لرحيله. بأبحاثه في علم النفس الاجتماعي، أسهم فانون في التأسيس لـ «الفكر العالمثالثي» الذي خرجت من معطفه حركات التحرر ومناهضة الإمبريالية. كتابه ـــ الوصية «معذّبو الأرض» (أو ملعونو الأرض) أسهم في بلورة الوعي السياسي لأجيال من الشباب المناهض للهيمنة الغربية، من حركات التحرر الخمسينية، إلى التنظيمات الطلابية الستينية، وصولاً إلى الحراك العالمي الحالي المناهض للعولمة الليبرالية.
لم يكن فرانز (عُمر) فانون قد تجاوز الـ 36، حين خاض معركته الأخيرة مع السرطان. رغم أنّ الموت غيّبه باكراً، إلا أنّ صاحب «العين الغريقة» ترك آثار أقدام جسورة على الساحة الفكرية والسياسية العالمية. كانت حياته القصيرة سِفراً نضالياً متواصلاً بدأه في الـ 17، حين غادر مسقط رأسه في جزيرة مارتينيك، لينضمّ إلى «قوات فرنسا الحرّة» كجندي متطوع للقتال ضد النازية.
بعد تحرير باريس، عاد إلى جزيرته مواصلاً تعليمه. أثبتت كتاباته الأدبية الأولى أن القلم الناري الذي شهره في مواجهة العنصرية الاستعمارية، لم يكن أقل حدّة من السلاح الذي رفعه ضد النازية. في مطلع الخمسينيات، حصل على منحة لدراسة علم النفس في ليون. بين 1949 و1950، قبل سفره إلى فرنسا، أنجز ثلاثة أعمال مسرحية («العين الغريقة»، «الأيدي المتوازية»، «المؤامرة») جعلته محطّ إعجاب الأوساط الثقافية الباريسية، لكن حالما نشر أوّل نصوصه غير الأدبية في مجلة Esprit بعنوان «التجربة المعيشة لزنجي» (1951)، انصبّت عليه نيران النقد. وإذا بتلك الحفاوة التي حظي بها لدى «مثقفي الحي اللاتيني»، تتراجع كاشفةً عن عقلية عنصرية استفزّها أنّ «الزنجي الذي أسهم الاستعمار في إعداده»، قادر على اكتساب موهبة أدبية تخوّله التأليف بلغة موليير. لم تتقبّل أن يستعير المستعمَر (بفتح الميم) لغة المستعمِر (بكسر الميم) كأدوات لفضح عنصرية هذا الأخير.
لم يتأثر فانون بتلك الحملة، ولم يخفف من حدة النبرة النضالية في كتاباته السوسيولوجية. هكذا، أصدر كتابه المدوّي «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء» («لو سوي»، 1952). لم يكتف هنا بنقد النظرة العنصرية المتعالية المسلطة على سكان المستعمرات، بل كان أول من جاهر بفضح «فكر الاستعمار اللغوي والثقافي»، الذي كان يغلب على الأوساط الثقافية الباريسية، ما كرّس القطيعة النهائية بينه وبين «مثقفي الحي اللاتيني». كتب عام 1953 قبل أن يغادر إلى الجزائر: «أدغال أميركا الجنوبية تعدّ، بالنسبة إلى زنجي مثلي، ألطف بكثير من مقاهي سان جيرمان»!
مع انطلاق حرب التحرير الجزائرية، قدّم فانون استقالته من مستشفى «البليدة» حيث عمل فترة (راجع المقال أدناه)، وانضم إلى الثوار. وفي 1957، اعتقلته السلطات الاستعمارية وأبعدته عن الجزائر، لكنه واصل النضال ملتحقاً بالقيادة السياسية لـ «جبهة التحرير» الجزائرية في تونس. هناك، شارك في تأسيس صحيفة «المجاهد»، وكان أحد رؤساء تحريرها. وفي 1959، أصدر لدى منشورات «ماسبيرو» التي تحوّلت آنذاك إلى منبر لـ «الفكر العالمثالثي» كتابه «العام الخامس للثورة الجزائرية». وبعد أشهر، اختير عضواً في الوفد الذي تولّى تمثيل «جبهة التحرير» في مؤتمر القمة الأفريقي في غانا. ما مهّد لاستقراره هناك عام 1960 سفيراً للحكومة الموقتة للثورة الجزائرية. إلا أنّه واصل أبحاثه وأسفاره لإلقاء المحاضرات دفاعاً عن القضية الجزائرية وقضايا التحرّر، ما عرّضه لمحاولتي اغتيال من اليمين الفرنسي المتطرّف خلال زيارتين قام بهما إلى المغرب وإيطاليا.
في ربيع 1961، وبينما كانت المفاوضات بين الحكومة الفرنسية وقادة الثورة الجزائرية قد دخلت أشواطها الأخيرة، تمهيداً للاستقلال، اكتشف فانون أنه مصاب بسرطان الدم. قرّر التفرغ لـ «المعذّبون في الأرض» («ماسبيرو»، 1961) الذي مثّل وصية فكرية للحركات العالمثالثية في مواجهتها للاستعمار والإمبريالية. توفي فانون في 6 كانون الأول (ديسمبر) 1961. وكرّمه قادة الثورة الجزائرية بتسريب جثمانه سرّاً إلى التراب الجزائري، حيث دُفن في «مقبرة الشهداء» في منطقة عين الكرمة قرب الحدود التونسية ـــــ الجزائرية.
كان الانتقال إلى الجزائر نقطة تحوّل في تجربة فرانز فانون. عُيِّن طبيباً نفسياً في مستشفى «جوانفيل» («العصفورية» في المخيال الشعبي الجزائري) في مدينة «البليدة» التي تعد عاصمة منطقة «المتيجة» الشهيرة بالأراضي الزراعية الخصبة. هناك، اكتشف الحيف الاستعماري وسط المزارع الشاسعة التي انتقلت ملكيتها إلى المعمّرين الأوروبيين الأثرياء الذين سخّروا سكان البلد الأصليين كعمالة رخيصة محرومة أبسط الحقوق.
لم يتردّد فانون في اتخاذ تلك البيئة الاستعمارية والفلاحية القاسية مختبراً لأبحاثه التي انصبّت على تحليل جدلية الجلاد والضحية التي تحكم علاقة المستعمِر بالمستعمَر. هكذا، أسّست أبحاثه لـ «مدرسة» جديدة في علم النفس الاجتماعي، سُمِّيت «مدرسة البُليدة» لتمييزها عن «مدرسة الجزائر العاصمة» الاستعمارية، التي كان يتزعمها أنطوان بورو.
في «بدائية سكان شمال أفريقيا» (1939)، رسم بورو بورتريه نفسياً شديد العنصرية لسكان شمال أفريقيا المسلمين، قائلاً: «إنّ الواحد من هؤلاء ثرثار، وكاذب، وسارق، وكسول. ومن وجهة النظر النفسية، يعدّ أحمقَ وهستيرياً. ويتسم بغريزة قتل دموية»! أما فانون، فردّ على النظرة الاستعمارية لمدرسة الجزائر لعلم النفس، بقوله: «الاستعمار هو الذي يسلب الإنسان المستعمَر شخصيته، محاولاً أن يجعله كائناً طفولياً، مقهوراً، منبوذاً، مسلوب الإنسانية، وبلا ثقافة من أجل تكريس تبعيته».
كذلك، أدّى فانون دوراً مركزياً في دحض أطروحات «علم النفس الاستعماري» الذي مثّل الفرنسي أوكتاف مانوني (1899 ـــ 1989) أبرز أقطابه. حثّ فانون على النظر إلى ظاهرة الاحتلال من خارج «المنظومة النفسية الاستعمارية». ودحض أطروحة «الأبوية الاستعمارية» التي نادى بها مانوني، من منطلق ما سمّاه «عقدة بروسبيرو» (نسبة إلى بطل «العاصفة» آخر مسرحيّات شكسبير). وفضح فانون كيف حاول «علم النفس الاستعماري» قلب جدلية الجلاد والضحية، بين المستعمِر والمستعمَر، من خلال استعارة شخصية «بروسبيرو» الذي يعامل خدمه بأبوية وسخاء، ثم يصبح عنصرياً إثر تعرض ابنته لمحاولة اغتصاب من عبده المسخ كاليبان.