توقفت كثيراً أمام أستاذ فى العلوم الرياضية بجامعة ميونيخ الألمانية.. قرر تأسيس معهد جديد لدراسة سلوك مشجعى كرة القدم.. فهذا الأستاذ مهموم منذ سنوات بدراسة العنف فى ملاعب الكرة وأحوال مشجعيها وتفسير دوافعهم وهوسهم وواقعهم وجنونهم وارتباطهم بأنديتهم.. وقد قرر الأستاذ تأسيس هذا المعهد الجديد بشراكة أحد أساتذة علم النفس وأستاذ آخر متخصص فى علم الإجرام.. والأجمل والأهم من تأسيس هؤلاء الأساتذة الثلاثة لمعهدهم الجديد هو ما قالوه عن أهدافهم وطموحاتهم ورغبتهم الحقيقية فى الفهم والمعرفة..
فقد قالوا إنه لم يعد لائقاً أو مناسباً التعامل مع مشجعى كرة القدم فى زماننا الحالى بنفس القواعد والأفكار والأحكام القديمة.. ومثلما تغيرت كرة القدم بشكلها ونظمها واقتصادياتها وخططها الفنية وأسرار بهجتها.. فقد تغيرت أيضاً ملامح ودوافع مشجعى كرة القدم ولم يعودوا كما كانت الأجيال القديمة فى الماضى.. وقد سمعت نفس هذا الكلام من أستاذة للرياضة وعلم النفس فى جامعة السوربون بباريس التقيتها فى الدوحة أثناء مؤتمر دولى للرياضة والأمن، واكتشفت من حوارى معها أن الجامعة الفرنسية العريقة بدأت تلتفت للعنف فى ملاعب الكرة وهذا التوتر الذى بدأ يغطى ملامح مشجعيها، وقررت السوربون أن تؤسس قسماً خاصاً يبحث فى ثقافة وسلوكيات مشجعى كرة القدم وأحوالهم النفسية..
وهناك تجارب أخرى أمريكية وإنجليزية تتشابه فى تفاصيلها مع التجربتين الألمانية والفرنسية.. ويدفعنى ذلك كله للتساؤل عن أحوالنا هنا فى مصر وضرورة أن نتوقف عما اعتدنا عليه من استسهال وتسطيح ساذج ومخل لكل قضايانا الكروية.. وعلى رأسها قضية التشجيع الكروى وما يشهده من تعصب وعنف وتوحش وجنون كان فى الماضى مقلقاً ومزعجاً، وأصبح اليوم مرعباً وقاتلاً.. ولانزال حتى اليوم نتعاطى وندمن مثل هذه التفسيرات القديمة التى لم تعد صالحة لأى استخدام ولا عادت لها أى قيمة حقيقية فى واقعنا الحالى.. ففى الإسماعيلية يكرهون الأهلى مثلاً لأنه يخطف منهم نجومهم منذ الستينيات.. والأهلى والزمالك يتنازعان قمة الكرة فى صراع تاريخى طويل.. وفى بورسعيد يرون المصرى عنوانا لصراعهم مع القاهرة.. وأشياء وحكايات أخرى نرددها يوما بعد يوم، وننسى دائما أن ما كان يقال قبل سنين قد لا يصلح اليوم لأن يقوله أو يسمعه أى أحد يريد أن يعرف ويفهم.. وبنفس المنهج نتعامل بنفس الاستخفاف والتسطيح مع قضية الألتراس.. ودون أن نبذل أى جهد حقيقى لنفهم أو نستعين بالعلم والمعرفة قبل أى حكم أو قرار..
وأظن أنه قد آن أوان تغيير كل ذلك.. فلدينا أساتذة حقيقيون ورائعون ومجتهدون فى علوم الرياضة والاجتماع والنفس.. لكن المشكلة أنهم لا يريدون أن يتكلموا ولا نحن نريد أن نسمعهم.. حتى الدراسات العلمية الرائعة التى ناقشتها كليات التربية الرياضية والآداب والخاصة بجماعات الألتراس فى مصر بقيت مجرد أوراق مهملة فى مكتبات مغلقة الأبواب ومطفأة الأنوار ولا تخرج أبدا للهواء الطلق.. وأنا الآن أتمنى شكلا ما يجمع كل هؤلاء الأساتذة وبحوثهم ودراساتهم فى مختلف المجالات الخاصة بمشجعى كرة القدم..
وكيف تأثروا بكل المتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التى شهدتها وعاشتها مصر فى سنواتها الأخيرة قبل الثورة وبعدها.. أتمنى أن يلتقى هؤلاء الأساتذة ويتبادلوا البحث والفكر والرأى والتفسير والتحليل.. ليس كتلك المؤتمرات والندوات الوهمية التى اعتدنا عليها فى بلادنا.. وليس من باب الاستعراض الإعلامى بحثا عن نسبة مشاهدة أو رعاة وإعلانات.. كما أننى لا أود التعامل مع هذا الأمر مدفوعين بانتماء لألوان أندية بعينها أو لتحقيق غايات محددة فى قضايا حالية.. فهذا الانحياز والقصد ضد طبيعة ووقار ونزاهة العلم.. ونحن نحتاج لهذا البحث فى كل مجالات حياتنا بجنونها واضطرابها ومخاوفها ومواجعها وليس فى كرة القدم فقط.. فقد جربنا من قبل الحلول الأمنية لكل مشكلاتنا وتأكدنا الآن أنها لم تحل أو تنه أى مشكلة.. وجربنا الحلول الإعلامية وسنكتشف قريبا زيف وخداع أى حلول إعلامية ودعائية.. وبقى أن نلجأ مرة واحدة وأخيرة للعلم والعقل والمنطق والمصارحة والمكاشفة أيضاً.
yayoub@gmail.com