يونغ محلل نفسي بالرمز والأسطورة والتنويم المغناطيسي
من الصعوبة بمكان أن نتحدث عن كارل غوستاف يونغ دون التحدث عن أستاذه وصديقه سيغموند فرويد . حيث تُشكل المرحلة التي التقى فيها الاثنان مرحلة مفصلية لهما على حد سواء. لا سيما إذا عرفنا أن يونغ بدأ بتأليف أشهر كتبه على الإطلاق وهو “الكتاب الأحمر” عقب خلافه الفكري والعلمي مع فرويد. حيث يرى الباحثون أن الكتاب الأحمر ليونغ يعتبر رحلة في أعماقه، لم يفصح أي مؤلف ثان عنه وعن نظرياته بالقدر الذي كان عليه هذا الكتاب، ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى أن تأليف هذا الكتاب استغرق ستة عشر عاماً من الكتابة وظل محجوباً عن القراء والباحثين وكانت عائلة يونغ قد أودعته في أحد المصارف السويسرية إلى أن خرج إلى النور في العام 2009 وحقق مبيعات هائلة لم يكن ليتوقع أحد أن تصل إلى هذا الحد.
تلك الحقبة انتهت بقطيعة نهائية لاثنين من أشهر علماء التحليل النفسي، حيث لم يعد بإمكان أي منهما احتواء الخلاف الناجم عن تناقض الأفكار حول مسألة “اللاشعور”، فأدّت هذه القطيعة إلى انفصال جمعية التحليل النفسي في زيورخ والتي برز فيها يونغ بقوة، عن الجمعية الدولية للتحليل النفسي التي يترأسها فرويد.
ابن القسيس
“عزيزي يونغ ، عدني ألا تتخلى عن النظرية الجنسية فهي أساسية أكثر من كل شيء. انتبه، لا بد أن نجعل منها دوغما وحصناً لا يتزعزع″ كان هذا ما قاله فرويد ليونغ، الذي علّق بالقول:” شعرتُ بعاطفة في كلامه ذكرتني بلهجة الأب وهو يقول لابنه (عدني بشيء واحد يا بني، أنك سوف تذهب إلى الكنيسة كل يوم أحد)”، والواقع أن مقاربة يونغ لطلب فرويد مع الخطاب الأبوي ليست مستغربة فيونغ هو ابن قسيس ومن الطبيعي أن يستحضر خلال وصية فرويد له أقرب الأمثلة في محيطه، ولكن كانت تلك الوصية من فرويد كفيلة بأن تصيب صداقتهما في مقتل، فمن جهته يعتبر يونغ أن من غير المنطقي أن يقبل بوصية فرويد لا سيما بعد ما علم منه ماذا يعني بالـ”دوغما” و”الحِصن”؟ ومن جهة أخرى فكلمة “حِصن” تعني رمزياً بالنسبة إلى يونغ الإيمان بالنظرية الجنسية إيماناً قاطعاً لا شك فيه.
من الفلسفة إلى الطب
عُرف عن يونغ التهامه لكتب نيتشه وكانط وغيرهما من الفلاسفة، ولكنه يفاجئ الجميع بالتوجه لدراسة الطب، وينتقل فجأة من الطب والجراحة إلى الطب النفسي، ازداد شغف يونغ بنظرة الناس إلى الطب النفسي في ذلك الوقت وكان يرى ذلك الازدراء والتقييم السلبي في عيون زملائه حينما كان يحدثهم عن علم النفس، كل هذه العوامل جعلت يونغ يتحمس أكثر لكُنْه أسرار هذا العالم الغريب (الجهاز النفسي)، فأنشأ يونغ أول مخبر تجريبي لعلم النفس في عام 1903 وبدأ اسمه باللمعان مع نشر مؤلفه الذي حمل عنوان: “سيكولوجية العته المبكر” والذي أرسل نسخة منه إلى صديقه فرويد. ثم بدأت شهرته تتسع وأصبح كبير أطباء العيادة وتم تعيينه محاضراً في الطب النفسي بجامعة تسورش وكان يمارس على وجه الخصوص التنويم المغناطيسي.
المعجزة التي غيرت حياة يونغ
على الرغم من إعجابه بفكرة التنويم المغناطيسي إلا أن يونغ لم يكن ليتوقع يوماً أن الأمر يمكن أن يتم بهذه السهولة كما حدث معه في العام 1903، كان يونغ في قاعة المحاضرات مع عشرين طالبا من طلبته حينما دخلت امرأة في منتصف العمر على عكازات وقد أصيبت بشلل في قدمها اليسرى منذ ما يزيد على 15 عاماً. تحدثت المرأة يومها عن حياتها دون توقف وأربكت يونغ مما اضطره لمقاطعتها طالبا منها الاستعداد لتنويمها مغناطيسيا، لكن واقع الحال أن المرأة نامت بعمق دون تنويم، وراحت تسرد في أحلامها وتتحدث عن حياتها. لم يكن الموقف سهلاً بالنسبة إلى الشاب يونغ وهو محاط بين طلابه المنهمكين بتدوين ملاحظاتهم، فكيف بالحال وهو يوقظ المرأة ولا تستيقظ، كان يقول لها: “أنا الطبيب، هيه كل شيء على ما يرام …أنا الطبيب”، لتستفيق المرأة وقد غمرتها سعادة غريبة لتصرخ قائلة: “لقد شُفيت، لقد شُفيت”. رمت بعكازاتها وشرعت تمشي وسط ذهول الحاضرين ويونغ على وجه الخصوص، الذي لم يرد تفويت هكذا مناسبة دون أن يُظهر للجميع رغم عدم تصديقه ما حصل معه بأن التنويم المغناطيسي يمكنه أن يفعل أكثر من هذا، “أجل يمكننا أن نفعل أكثر ولكن إلى أي حد؟” إلى حد أن المرأة أعلنت أن يونغ ساحرٌ على الملأ، وهذا ما لم يكن في الحسبان، وما لم يكن يرغبه يونغ ولكن هكذا فهمت المرأة أن ما حصل معها ما هو إلا سحر يونغ.
يونغ يقوض التحليل النفسي
بعيداً عن الفروقات التي تخص الاعتقاد الديني والتي وصفها يونغ بنفسه حينما كان عضواً في حركة التحليل النفسي، حيث يذكر يونغ بأن كلا من فرويد وأدلر توحيديان يؤمنان بإله واحد إلى درجة لا تحمل أي تناقض. أما يونغ فكان يؤمن بتعدد الآلهة فبالنسبة إليه، الله الذي لا يُدرك يظهر في صور كثيرة، وحتى هذه الصور نفسها يمكن أن تكون أزواجاً متضادة. والحكمة تقتضي أن يتعلم الإنسان كل هذه الأضداد ويعترف بها جميعاً (الخير والشر، الحرب والسلام، التخمة والجوع).
ففي حين يركز فرويد كل انتباهه على مرحلة الطفولة ليدرس نمو الفرد يرى يونغ أنه ليس من الضروري أن نعود للطفولة لنكتشف مشكلات البالغ. حيث لا يتفق يونغ مع فكرة أن المحلل النفسي مُلُزم بالعودة إلى مراحل الطفولة والمراهقة الأولى، بل الحري به أن يجد طرقاً لمساعدته هنا والآن، وهكذا كما نرى لم يتغير منظور علم النفس من ناحية الزمان فقط بل والمكان أيضاً، وطبيعة المشكلات كذلك تغيرت وطرق الحل. فبحسب فرويد تنحصر أسباب الصراعات العصبية للفرد بمشكلات ذات صلة بالغريزة بالدرجة الأولى، وهذه الغرائز تنمو عموماً في مرحلة الطفولة ولذلك تعتبر العودة للطفولة من أركان التحليل النفسي. أما يونغ فقد اكتشف بخبرته العلاجية ما يغاير اكتشاف فرويد فبحسب الأخير بعد السنة الخامسة والثلاثين تصبح طبيعة غالبية المشكلات روحية لا جنسية.
ولكن هذا ليس كل شيء ، تتالت صدمات يونغ مع اكتشافه لمثلث فرويد الخفي: زوجته العجوز، وشقيقتها الشابة الجميلة، وفرويد. لم تساوره الشكوك فحسب حول طبيعة العلاقة بين السيدة فرويد وزوجها، بل وصل استغرابه حد الاستهجان أن لا تهتم زوجة فرويد بعمل زوجها، في حين تتابع شقيقتها أدق التفاصيل وتُظهر اهتماماً لافتاً بالتحليل النفسي.
فلسفة يونغ
ولد يونغ في العام 1875 في بلدة كيسول السويسرية، وكان طفلاً غريبًا ولم يكن له إخوة وأخوات ولذلك لم يكن أمامه سوى أن يتخيل ألعابا و يلعبها مع نفسه، لذلك كان يونج في طفولته الأولى شديد الحساسية ويميل للعزلة واللعب منفردا، وكان شديد الاهتمام بالعقائد الدينية المختلفة والحضارات الإنسانية والآثار، درس الطب في مدينة بازل وأصبح طبيباً في العام 1900 في مستشفى الأمراض العقلية في برغولزلي.
وفي خريف العام 1913 بدأت الرؤى المُرعبة تلاحق يونغ ومنها أحلامه التي كان يرى فيها أوروبا تغرق في بحار من الدماء وبالفعل في العام التالي نشبت الحرب العالمية الأولى. قام يونغ خلال تلك السنوات بمهمة تشبه التنقيب ولكنها لا تبحث عن آثار حضارات، وإنما على العكس كانت بهدف التعرف على آليات التشنج والتدمير الذاتي العقلاني خلال حياة الإنسان الأوروبي. أثمرت بحوثه عن عمل تذكاري ضخم في العام 1921 عن الأنماط السيكولوجية وسيكولوجية التفرد. حيث عزا يونغ تمايز الأفراد إلى ما أسماه الوظائف الواعية الأربع، وبحسب يونغ، يختلف الأفراد في تأثرهم بالوظائف المعرفية، فهناك من يفضل التفكير كدليل قبل إطلاق الأحكام، وآخر ينقاد وراء عاطفته الصرفة، وثالث يختبر العالم بناء على الانطباعات التي تنقلها له حواسه بشكل مباشر، ورابع يعتمد على حدسه والعلاقات الخفية، ويتابع يونغ بالقول إن واحدة فقط من هذه الوظائف الأربع تأخذ زمام القيادة وتؤازرها أخرى من الثنائي الآخر ويسوق مثالاً على أن التفكير يؤازره الإحساس، أو الإحساس يؤازره التفكير، واجتماع كلتا الوظيفتين المعرفيتين يترك العاطفة والحدس مهملين ومكبوتين في اللاوعي قابلين للانفجار كعقدتين مستقلتين على هيئة أمزجة لا ضابط لها، ويكون يونغ من خلال هذا التحليل قد استعار نظريته من هيراقليطس الذي عُرف عنه إيمانه بأن كل شيء ينقلب إلى ضده مع مرور الزمن.
الانبساط والانطواء
أدخل يونغ على التحليل النفسي مصطلحي الانبساط والانطواء، الأول يشير إلى الليبيدو أي اللذة، والثاني يشير إلى الاهتمام المتركز على الذات، إلا أن كلا الموقفين قابل كذلك للانقلاب على ضده، وعندما يحدث هذا الانقلاب تظهر المحتويات الأخرى المكبوتة فتبدأ عملية التشويش والتي قد تنتهي بأن يصاب الإنسان بنوبة من الغضب يفقد فيها أعصابه، رأى يونغ أن الإنسان لا يجب أن يقمع الجانب الآخر من نفسه، بل بالعكس عليه التعرف عليه وأن ينمي كلا الجانبين بما لديه من قدرات، وهذه المقدرة تحديداً يعتبرها يونغ ملكة، إن امتلكها الفرد يتحرّر من مطالب زوج واحد فقط من الأزواج المتضادة، والتي يُطلق عليها الوظيفة المجاوزة أو الحاسة السادسة والتي تعمل بنظام الرموز على تحرير الأشياء من ارتباطاتها المدركة.
يميز يونغ في فلسفته بين الرمز والعلامة ويرى أن الرموز تتحول إلى علامات عندما نقرأها بالرجوع إلى شيء معلوم، مثل الصليب ودلالته على الكنيسة وحادثة صلب المسيح، في حين أن العلامة تصبح رمزاً عندما نقرأها بالرجوع إلى شيء مجهول.
يونغ والنازية
كان يونغ نائباً لرئيس الجمعية الطبية العامة للعلاج النفسى، وكان مقرها في ألمانيا، حيث ازدهرت مع صعود النازية ووصولها إلى الحكم في العام 1933، فأجبر النازيون يونغ على تولي رئاسة الجمعية، وأرادوا توجيه عملها لتصبح مؤسسة نازية، ولكن التعديلات التي أدخلها يونغ على ميثاق الجمعية أصبحت تعطى حق العضوية لأيّ مجموعة قومية، بما في ذلك اليهود، وهو ما أراده يونغ من البقاء في عمله، ولم يلبث يونغ أن استقال في العام 1940، ومع اشتداد الحرب العالمية الثانية تم توجيه الاتهام ليونغ بمعاداة السامية، ولكن تم نفي الاتهام لاحقاً، مما أغضب النازيين فقاموا بمنع كتبه في ألمانيا ووضعه على القائمة السوداء.
قلعة يونغ استراحة المحارب
على ضفاف بحيرة تسورش، قرر يونغ شراء أرض لبناء قلعته التي سماها “البرج”، والتي سيخلد فيها للراحة بعد مشوار طويل من البحث العلمي، وكما يقول يونغ بأن كل رمز يتم إرجاعه إلى أمر معلوم يصبح علامة، يحق لنا أن نتساءل عن رمزية هذا البرج الذي بناه يونغ في أواخر حياته على ضفاف تلك البحيرة وفي نفس المنطقة التي بدأ فيها مشواره العلمي الضخم. لماذا اختار يونغ بناء قلعته بنفسه هل كان يتسلى بما تبقى من سنيّ حياته ولا سيما بعد استقالته؟ أم أنه آثر بناءها بنفسه لما عرُف عنه بطفولته من ولع بالبناء ورصف الحجارة؟ والواقع أنه بعد وفاة زوجته في العام 1955، كان يونغ قد توجه إلى العمل على فكرة جديدة لكي يزيد في تشييد “برجه”، أي تشييد نفسه، وكان يريد بذلك تمديد الواعية المتحقِّقة في سن الشيخوخة، وختم دراسته للخيمياء التي استغرقتْ ثلاثين عامًا بعمله الأخير المعنون:”سر الجمع”، ومات في منزله في كُسنخت، تسورِش، في صيف العام 1961.