د. مهند مبيضين
ودعت سورية والثقافة العربية يوم الخميس الماضي المفكر والتربوي فاخر عاقل عن عمر ناهز الثانية والتسعين، بعد مسيرة طويلة في التأليف والتدريس، الوفاة كانت في دار السعادة للمسنين في مدينة حلب، حيث اختارها عاقل أن تكون المحطة الأخيرة في رحلته بالدنيا، فحلب الطفولة والحب ظلت المقصد والسبيل بالنسبة إليه.
ولد عاقل العام 1918 في بلدة "كفر تخاريم" التابعة لمحافظة إدلب، يومها كان والده يعمل في الإدارة المالية أواخر العهد العثماني في نواحي حلب، وفي حلب كانت دارسته الابتدائية في مدرسة منطقة الباب التي كان والده مديرًا للخزينة فيها.
بعد الابتدائية أرسله والده لمتابعة دراسته بين عامي 1936-1937 درس في ثانوية حلب. وفي صغره أحب اللغة الفرنسية وكان مجدا بها فقدمت له منحة من قبل مدير المدرسة الأميركية ببيروت عندما زار ثانوية حلب وكشف في زيارته عن نبوغ فاخر عاقل في اللغة الفرنسية.
رشح فاخر ضمن قائمة مبعوثين سوريين للدراسة في بيروت، لكن حين صدرت القوائم لم يجد اسمه من بين الاسماء برغم تفوقه، إذ كان أحد الوجهاء السوريين مسح اسمه من القائمة، فذهب لسؤال وزير المعارف السوري عبدالرحمن كيالي، لمعرفة سبب شطب اسمه ولما لم يجد جوابا، قرر بالاتفاق مع والده دراسة الطب في جامعة دمشق التي كانت تعرف حينها بالجامعة السورية.
في السنة الثانية لدراسته وفي ذات مساء سمع بائع الجرائد ينادي على أن في جريدته أسماء المبعوثين إلى الجامعة الأميركية، فأخذ الجريدة ونظر فيها فإذا باسمه بين الأسماء، ومطلوب منه أن يراجع رئيس الديوان في وزارة المعارف، وذهب في اليوم التالي إلى رئيس الديوان الذي بادره بالسؤال:أنت فاخر عاقل؟ قلت: نعم، قال: ومن كان وسيطك إلى البعثة؟ فقال:لا أدري، وقصّ عليه قصته. فقال: لا شك أن الوزير نفسه هو الذي أمر بإدراج اسمك.
اختار دراسة علم النفس في الجامعة الأميركية اختصاصًا أساسيًا والتربية اختصاصًا فرعيًا، وحصل على شهادتي البكالوريوس والماجستير وفي الجامعة الاميركية تتلمذ على يد كل من قسطنطين زريق وشارل مالك، ونال شهادتي البكالوريوس والماجستير، بعدها طلبته وزارة المعارف السورية وأجبرته على الالتحاق بها بناءً على عقد موقع معها بسبب التزام الابتعاث، وعين أستاذًا في دار المعلمين لتدريس مادتي علم النفس والتربية.
اثناء إشغال المربي الكبير ساطع الحصري لمنصب مستشار التعليم في سورية عقب انتقاله من العراق زار الحصري عاقل في الصف، ونشأت بينهما صداقة، ولما أراد الحصري أن يوسع الجامعة السورية، أوفد عاقل إلى جامعة لندن شريطة أن يدرس علم النفس على يد الأستاذ المشهور سير سيدل بيرت، فذهب إلى لندن العام 1946 وطلب مقابلة (بيرت)، وقال له إنه موفد لتحضير الدكتوراه معه، فسأله عن الشهادة التي يحملها، وحين علم أنه حاصل على الماجستير في علم النفس والتربية من الجامعة الأميركية في بيروت وهي جامعة تابعة لولاية نيويورك، قال بيرت: "آسف لا أستطيع قبولك لأني لا أحترم الشهادات الأميركية، فإذا أحببت أن تحضّر الماجستير معنا فأهلا بك، وأما الدكتوراه فلا.."
كان ذلك الموقف أول صعاب الغربة، إذ خرج عاقل آسفًا حزينًا وذهب إلى جامعة السوربون في باريس، وسجل لشهادة الدكتوراه، وكتب إلى ساطع الحصري يعلمه بما جرى، فكتب إليه الحصري يقول:"إما الدكتوراه مع بيرت أو فارجع من حيث ذهبت".
عاد عاقل إلى البروفيسور بيرت وطلب مقابلته وسأله: لماذا لا تقبلني في الدكتوراه؟
قال: إنك لن تنجح وستسقط، فقال عاقل: جربني وافحصني فإذا سقطت سأستأذن وزارة المعارف لإيفادي إلى أميركا، فوافق بيرت بشرط أن يجري عاقل تجارب قياسية في علم النفس، وأن يكتب مقالين بالإنجليزية يصلحان للنشر في مجلة علم النفس البريطانية، وبعد مدة وجيزة استطاع عاقل أن يحقق شروط أستاذه الصعبة وتفوق في رسالته التي أعدها.
قفل عاقل لدمشق وعمل في الجامعة السورية، واثناء تلك الفترة ألف كتابه في علم نفس الطفل. وأثناء عمله بجامعة دمشق عمل أيضا مع اليونسكو مدة سبع سنوات متفرقة، تنقل فيها بين مصر والأردن والسعودية. وخلال وجوده في الأردن ساهم في تأسيس الجامعة الأردنية وعلّم فيها في قسم علم النفس ثلاث سنوات، عاد بعدها إلى جامعة دمشق وظل حتى عام 1983 حين طلب إحالته إلى التقاعد.
يقول "أ.د عبد الرحمن عدس أستاذ علم النفس المتقاعد من الجامعة الأردنية كان فاخر عاقل من الرواد في علم النفس التربوي إذ درس الراحل في كلية التربية في الجامعة الأردنية لا بل هو من مؤسسيها وهو رجل فاضل له حضور الرواد الكبار وهو من الثقات في العالم العربي وله أبحاث كثيرة وطلابه عديدون جدا ومنتشرون في أكثر من مكان".
عبر مسيرة طويلة من العطاء الفكري والتربوي أنتج فاخر عاقل ما يزيد على 27 كتابا في التربية وعلم النفس باللغات العربية والإنجليزية، 24 منها مؤلفة و3 كتب مترجمة، وأغلب مؤلفاته درست في جامعة دمشق وجامعات عربية أخرى، ومنها "أصول علم النفس التربوي وتطبيقاته" والذي أعيد طبعه لأكثر من ست مرات. وكتاب "علم النفس وعلم التكيف البشري"، و"رحلة عبر المراهقة"، و"سلوك الطفل"، و"الإبداع وتربيته". و"أسس البحث العلمي في العلوم السلوكية". كما ألف قاموسين هما "معجم علم النفس" و"معجم العلوم النفسية" الذي ضمنه نحو 8000 مصطلح مشروح باللغتين العربية والإنجليزية. اشتغل عليهما لأكثر من سبع سنوات، كما دأب على كتابة المقالات في الصحف والمجلات العربية. كما لم يبخل بمكتبته التي تحتوي على أكثر من 4500 كتاب على أبناء بلده وأهداها للمكتبة الوطنية قبل أن ينتقل للعيش في دار المسنين وينتقل إلى رحمة الله.