يظن البعض أن علم النفس له مبادئه ونظرياته الخاصة، غير المرتبطة بالعلوم البحتة والأساسية، غير أن الأستاذ في علم النفس في الجامعة اللبنانية الدكتور فاسيلي بودجي ركز في أطروحة الدكتوراه، التي ناقشها العام الماضي في الجامعة اللبنانية بإشراف البروفسور عباس مكي، على ربط الاضطرابات النفسية وخصائصها بالنظريات العلمية البحتة في الفيزياء، والكيمياء، والعلوم الطبيعية، والرياضيات مستندا على دراسة 21 حالة.
ترتكز حالات الفوبيا على الخوف من أمر أو شيء أو فكرة معينة.
تماثل الفوبيا، وفق بودجي، تكيس الخلايا (encystment) إذ يُغلف الخلية غشاء لمقاومة الظروف البيئية غير المناسبة. فيشكل الحادث المعين الذي عاشه الفرد الغلاف الأساسي للمشكلة ومصدر العوارض. وهناك تشابه بين ردة الفعل المنعكسة (reflex) وهي حركية لا إرادية وفورية استجابة لمحفز ما، وبين حالة الفوبيا وعادات الفرد. من جهة أخرى، يحتاج الشخص، الذي يعاني من الفوبيا، إلى وجود أشخاص آخرين للشعور بالطمأنينة مثل انصهار الخلايا البيولوجية وتقاربها.
تعتبر الهستيريا حالة عصابية لها عوارض نفس ــ جسدية مثل دقات قلب سريعة، والشعور بالقلق. وتعود، في معظم الحالات، إلى صدمة في الطفولة. يُظْهِر المصابُ بالهستيريا سلوكيات مغايرة للتصرفات السوية، ما يماثل نشاط الفيروسات التي تحل محل الخلايا السليمة وتنمو وتتكاثر.
يُظْهِر بعضُ المرضى خوفا من الفقدان أو من الهجر، ويعاني الشخص نقصا في العاطفة وكأنه يعبر عن نظام العائلة التي ينتمي إليها. يربط بودجي بين تلك الحالات وقانون «communicating vessels» في علم الفيزياء. يعكس القانون توازن المياه في الحاويات ما يماثل التوازن الذي يحافظ عليه أفراد العائلة بطريقة غير واعية. تنص قاعدة الثمانيات في الكيمياء (octet rule) على أن الذرات تميل لأن ترتبط بطريقة تجعل فيها 8 إلكترونات في غلاف تَكَافُئِها بغية تحقيق الاستقرار، ما يشابه وضع الشخص الذي يعاني عطشا للحب ببحثه عن العاطفة.
تكوّن عناصر غير متجانسة، في الكيمياء، رواسب. وبالمقارنة مع ذلك، يعيد بودجي المشاكل التي يواجهها الثنائي إلى رواسب الماضي التي تظهر في حياة الثنائي غير المتوازنة. يركز الشخص، الذي يعاني حالة خوف وقلق من دون سبب واضح، على العوارض ما يماثل حركة الوماض «stroboscopic effect» في الفيزياء التي تركز على نقطة معينة.
تنص الظاهرة الفيزيائية (refraction) على انكسار الضوء عند الحد بين وسطين مختلفين مثل الهواء والماء فيتغير اتجاه الضوء وكأنه يتهيأ للشخص أن مصدر الضوء مختلف عن المصدر الأساسي. وعلى غرار ذلك، يسقط الشخص، الذي يعاني من الذعر أو الاكتئاب، مصدر العوارض على مصدر آخر أو سبب آخر مختلف عن المصدر الأساسي.
من جهة أخرى، يربط بودجي بين مرض الاكتئاب في علم النفس والنظرية النسبية للعالِم ألبرت اينشتاين (1879 ـ 1955) التي تشير إلى أن سرعة الضوء تُعدّل في تحديد رؤية الفرد للأشياء. وبالتالي، يرى الشخص الذي يعاني الاكتئابَ العوارضِ التي يعيشها وأسبابها، مع مرور الوقت، بطريقة مختلفة عن الآخرين.
ترتكز نظرية العالم السويسري جان بياجيه (1896 ـ 1980) على أن التأقلم مع الظروف ينجم عن التآلف والاستيعاب، فيظهر الشخص الذي لا يقدر على التآلف والاستيعاب توترا وضغطا نفسيَّين. يدخل المدمن على الكحول في دائرة مفرغة وكأن الطاقة النفسية تشكل قوة جذب مركزي ( centripetal force) تجعل المدمن على الكحول يدور في حلقة مفرغة.
ينص قانون الكيميائي لافوازييه (1743 - 1794) المسمى حفظ المادة على أن المادة في نظام مغلق لا يمكن أن تفنى، أو تنشأ بل تتحول. وفي علم النفس، تبقى جميع التجارب التي يعيشها الفرد في نفسه وجسده وتظهر على نحو عوارض مختلفة.
يظهر نشاط الخلايا عمليةَ تناقلِ المعلومات لإنتاج البروتينات كما يتناقل الأشخاص، وبطريقة غير واعية، الصدمات النفسية التي تتوارثها، في بعض الحالات، الأجيالُ في حال عدم معالجتها. تساعد الأجهزة والأدوات المخبرية الباحثين في العلوم البحتة على تطوير النظريات والتجارب العلمية، بينما يبقى الإنصات للمريض الأداة الأكثر فعالية لاكتشاف نفس الفرد واضطراباتها.
يقول بودجي إنه يمكن تعميم تلك النتائج وعدم حصرها في الـ21 حالة التي عاينها. وترتكز أهمية تلك المقاربة على إعطاء معنى علمي للاضطرابات النفسية بعيدا عن المعاني الفلسفية، ما يساعد في التعمق في علم النفس وخصائصه. ويساهم هذا البحث في فهم الاضطرابات النفسية من السمات الكبيرة إلى الخصائص الصغيرة، الأمر الذي يشبه تنظيم العلوم الطبيعية من الأعضاء الكبيرة إلى الجزيئيات الصغيرة.
ملاك مكي