علم النفس بين الأمثال الشعبية ونظريات بافلوف وفرويد

عبد اللطيف فاخوري*

بعدما شرح لنا أستاذ العلوم إرتباط نظرية بافلوف حول ردّ الفعل الشرطي من التجارب التي قام بها عن كلبته، أسرعتُ إلى جدتي لأباغتها بالنظرية المشار إليها، قالت: مين هيدا أبولوف؟ وشو عمل؟ قلت: ان بافلوف هذا هوعالم روسي ولد في روسيا سنة 1849 وتوفي فيها سنة 1936، أنشأ علماً جديداً، وقد إعتاد في مختبره أن يقرع جرساً ثم يقدم بعد ذلك الطعام للكلبة. وبعد تكرار قرع الجرس وتقديم الطعام بعده، اكتشف العالم المذكور انه كلما قرع الجرس أفرزت معدة الكلبة السائل المعدي.
فأثبت أن الأحداث وردات الفعل مرتبطة لدى الكائن بحالات العصبية.
فقالت جدتي: غداً قلّ لأستاذك ان جدّ جدتي سبق بافلوفكم هذا في نظريته قبل أن تلده النساء، فكان يردد مثلنا الشعبي البيروتي: يلي تعوّد على خبزاتك، كل ما شافك بيتلمّض. وأصل يتلمض: يتلمظ قلبت الظاء ضاداً إستسهالاً. والتلمظ لغة أن يتبع الإنسان بلسانه بقية الطعام في فمه ويخرج لسانه ويمسح به شفتيه. والمثل خلاصة تجربة بافلوف لأن من إعتاد على ان تطعمه سواء، قدمت له الطعام على طبق أو أطعمته بيدك، عندما يراك يتذكر الطعام الذي يشكل عنده منبهاً، ما يجعل لسانه يتحرك ومعدته تفرز...
وقد تابعتُ في صفّ الفلسفة دراسة علم النفس، وقام الأستاذ يوماً بتدريسنا ما اكتشفه فرويد ونظريته في الأحلام من أن ما يراه النائم في أحلامه هو إنعكاس لما يفكر فيه في يقظته أو لفكرة أو إنفعالات مكبوتة في نفسه وان الكبت غالباً ما يعود الى سبب جنسي يؤدي مع الزمن الى ظهور علامات مرضية. وأسرعت الى جدتي من جديد لأبلغها بنظرية فرويد وأنا على ثقة بانها سوف تدهش بها فتسبح وتحوقل. ولكنني فوجئت بقولها: كل ما فرنجي قال موال صار لازم نغنّيه؟ إسمع يا إبني أجدادك قالوا في أمثالهم حِكماً بنوها على تجارب متكررة وصاغوها في جملٍ بليغة مختصرة تضاهي نظرية صاحبك فرويد. ففي أمثالنا: الجوعان بيحلم بسوق العيـــش (أي بالفرن). وقالوا يلي بيخاف من العفريت بيطلع له. ويلي إلو عدو في النهار بيحلم فيه بالليل. كما رددوا: يلي بيقعد بين القبور بيشوف منامات وحشة. أليس كل ذلك من ردود الفعل على أوهام أو واقعات سابقة يمر بها الإنسان وتبقى محفورة في ذاكرته؟
وعندما ذاعت شهرة تجارب مكافحة الشيخوخة وإطالة العمر وذاعت شهرة نظرية إعادة الشباب لصاحبهــــــــــــا الدكتور فورنوف، أسرعت أيضاً إلى جدتي أبشرها بذلك الفتح المبين، وأبلغها بقرب وصــــــــول الدكتور المذكور الى لبنان. وانتظرت أن أرى الفرحة في عينيها، فكان جوابها: ساعة بتقول لي فورنوف وساعة بتقول بافلوف، جدك رحمه الله لم ينل الشهادة التي تسموها اليوم الدكتوراه ولكن أباه نصحه يوم كانت النصيحة عند العرب بجمل وزمام بقوله: رجوع الشيوخ الى الشباب دعاء لا يستجاب.
واعتدت كلما تابعت درساً من دروس علم النفس والمنطق أن أعود متحدياً جدتي بما في حافظتي، فتخرج من جرابها ما جعلني أتساءل كم في المثل الشعبي من تجارب إنسانية جاء علم النفس الحديث ليضع لها نظريات يباهي بها العالم.
في علم النفس أن بعض الأشخاص مصابون بما يسمى بالرهاب تجاه الأفاعي أو الظلام أو المصاعد أو ركوب الطائرة وان ذلك يؤدي الى وسوسة يتخذها الفرد لحماية نفسه من الإفصاح عن رغباته المكبوتة أو هي إضطرابات نفسية ولدت من صدمة إنفعالية سابقة. ولا شك بأن كل فرد قد يتعرض في حياته الى مواقف حادة إلا أن رد الفعل يختلف من شخص يتجاوز الصدمة، الى آخر يعتوره القلق ويعشش فيه الخوف كلما وجد نفسه في ظروف مشابهة نظرياً. وقد لحظت أمثالنا الشعبية هكذا حالات وعبرت عنها بلغة العامة. فقالت: يلّي عضته الحية بيخاف من الحبل. والملدوع بيخاف من جرة الحبل. ويلي كاويه الحليب (الساخن) بينفخ على اللبن.
وعلم النفس يدرس العلاقة والإرتباط بين ما يعرض للجسد وما يعرض للنفس.
وقد توصل بالتحليل النفسي الى إكتشاف خبايا النفس من خلال السلوك البشري وظاهر جسد الإنسان. أي من وجهه وعيونه وجلده وتصرفاته، فتوصل الى أن الوجه هو مرآة الحالة النفسية أي العلاقة بين مظهر الوجه والحالة التي يعبر عنها وأن أي فرد تتطلع الى وجهه تتكون لديك فكرة عن حالته النفسية، وقد لحظت الأمثال الشعبية هذه العلاقة. فيقال لصاحب الوجه المقت: وجهه بيقطع الرزق أو وجهه مثل ورقة النعوة. ويقوم علم النفس على تحليل نظرات العيون للوصول الى الإنفعالات والمشاعر والصفات الشخصية. قالت الأمثال: عين المحبّ عميا. وعين بزقّ عنها المسمار. أي صاحبها لا يخجل. وعين تضحك وعين تبكي لحالات الفرح والحزن. وفي الأمثال أيضاً: العين فاضحة تنبىء عن جوهر صاحبها. وعينه فارغة، وعينه ضيقة، وعينه من زجاج.
ويربط علم النفس بين جلد الإنسان وحالته النفسية باعتبار أن الجلد هو الواجهة الخارجية، يحمرّ الجلد خجلاً وحياء، ويصفرّ فزعاً وهلعاً، ويقشعر فيقف شعره، ولمن لا يتأثر ظاهر جلده قال المثل: جلده متمسح. وقال الجود لا من الموجود ولا عن أب وجدود ولكن إحساسات في الجلود. ولارتباط الحب بتصرفات الفرد قالت الأمثال: الإجر ما بدّب إلا مطرح ما القلب بيحبّ، وبصلة المحبّ خاروف. ما في بالحب يا أمي إرحمني. كل شي في منّو عند العطار إلا حبّني غصب. حبك للشيء ستر قبحه وبغضك للشيء ستر ملحه.
وإذا كان علم النفس يداوي الحزين بإدخال السرور ونفي الهمّ عنه والدعوة للتنزه وسماع الموسيقي، فقد جاء في الأمثال: شمّ الهوا أحسن دوا. الضحك والأمزاح تشفي الأرواح. بيع الجمال واشتري خفة الجمال كثير لكن الظرف صدفة. إن جاعت النفس باش مكان قوّتها، وساعة الحظ عمرك لا تفوتها. كتر الهمّ بقصّر العمر. أذكر الورد بتشم ريحته.
ونشير أخيراً الى معالجة المرض الوهمي وانقباض النفس أي ما يعرف بإزالة الوهم بالوهم. فعندما يقع الصغير ويتألم ويبكي من الخوف يسارع الأهل صرف انتباهه الى شيء آخر، أو الى الإسراع بصورة فورية لجلب طاسة الرعبة وجعله يشرب منها.
ذكر عبد الرحمن بكداش العدو ان بعض الأطفال يمرضون ويصابون بورم فيقال عنهم (مطحولين) وكان أبو علي ستيتيه مشهوراً في بيروت بمعالجتهم وكانت النساء تقصدنه يومياً وهن يجرجرن أطفالهن المتدلية بطونهم حتى الركبتين بسبب تضخم الطحال، ويطلبن من أبوعلي قطع الطحـال، فيشمر عن يده اليمنى ويمسك فيها بسكينة طويلة حادة، فيبسمل ويحوقل ثم يكشف عن بطن الطفل وينفخ عليه من أنفاسه «الطاهرة»، وبينما يمسك بيده اليسرى زند الطفل ليثبته، تباشر اليمنى بقطع الطحال عن طريق تمرير السكين عدة مرات فوق بطن المريض عن بعد طبعاً، ثم ينفخ نفخة ويحمدل.
وما جاء في الامثال حول علاقة الجسد بالنفس قاله شعراء العرب قديماً:
كتمت الهوى حتى إذا نطقتْ به
بوادر من دمعٍ تسيل على خدي
وشاع الذي أضمرت من غير منطق
كأن ضمير القلب يرشح من جلدي

* محام ومؤرخ

بافلوف

Leave a Reply