مرّت 25 سنة على سقوط جدار برلين، لكن المعاناة النفسانية لأبناء ألمانيا الشرقية لم تطوَ بعد. فالمرحلة هذه خلفت رضات نفسانية لم تندمل، وفي جمهورية ألمانيا الديموقراطية سعى المعالجون النفسانيون إلى الاطلاع على أصول النفسانيات والتحليل النفسي الفرويدي من طريق كتب تهرب من ألمانيا الغربية. وكنا نطلع على العلم هذا اطلاعاً مرتجلاً حين تتوافر الكتب والمراجع، فنطلب من أصدقاء في الغرب أن يجلبوها لنا. وكنا نطبق ما نقرأه ونحسب أننا أهل للمهمة ونلم بأصول العلاج النفساني إلماماً كبيراً. ولكن حين سقط الجدار، أدركت أن ما حصّلته من معرفة شائع في الغرب. وفهم أسباب تباين موقف ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية إزاء علم النفس والتحليل النفسي يقتضي العودة إلى تاريخ الرايخ الثالث الذي أغلق أبواب آخر معهد جامعي لتدريس التحليل النفسي عام 1934. وبعدها فتح قريب هرمن غورينغ مركزاً جديداً عُرِف بمعهد غورينغ. وفيه حصّل عدد من المحللين النفسانيين، وكلهم من غير اليهود، علمهم، وسعوا إلى التكيف مع العقيدة النازية والتوفيق بينها وبين علم النفس التحليلي. وبعد الحرب، أغلق المركز أبوابه في ألمانيا الغربية وتربع محله مركز تأمين صحي، فتحررت من إرث النازية الثقيل في علم النفس واستأنفت الاطلاع على مستجداته. لكن شرق ألمانيا افتقر إلى محللين نفسانيين، واقتصر الطاقم الطبي على الأطباء وعلماء النفس.
وخلص المحلل النفساني لودفيغ دريس عام 2009 إلى أن الديكتاتورية تخلّف آثاراً نفسية فيلجأ المرء إلى أواليات دفاع، أبرزها إنكار الواقع العصي الاحتمال من أجل حماية النفس من الخوف والغضب. فيصاب المرء بضرب من العمى النفساني يحميه من آثار المعاناة. وعلى سبيل المثل، لم يخف الناس أن جهاز «ستازي» كان يتنصت عليهم، لكنهم كانوا يتظاهرون بأن الأمور على ما يرام. والأوالية الثانية التي يتوسلها المرء إلى التعايش مع واقع استبدادي هي تفادي كل نزاع مخافة لفظه من المجتمع الشمولي. ويتعلم المرء أن يتراجع أمام الخطر وألا يرفع رأسه إلا حين ينقضي. وهذا نوع من الارتكاس الرمزي إلى وضع الرضيع الذي يعتمد على الآخرين اعتماداً لا فكاك منه. ويشترك البشر في هذه التجربة في مرحلة الطفولة الأولى، وقد تنبعث من كمونها في أوقات الخطر.
وحين شُيّد الجدار في آب (أغسطس) 1961، سعى الناس إلى طمأنة أنفسهم، وقالوا إن المهم هو أن يكونوا معاً وأن يساندوا بعضهم بعضاً. وساهم الخوف إزاء القومية – الاشتراكية وندوب الحرب النفسية في بروز تقسيم ثنائي بين الأخيار والأشرار. وكان الناس يجدون عزاء لهم في معرفة أنهم في معسكر الأخيار. فالأشرار هم، من غير شك، الرأسماليون في المقلب الآخر من المدينة والبلد، والأخيار هم مقاومو الفاشية والعمال. وارتقت معاداة الفاشية إلى مصاف أيديولوجيا الدولة. وهذا التقسيم الذي نفى الشوائب أو الأخطاء من حياة سكان ألمانيا الشرقية «الأنقياء» ساهم في رجحان كفة التخفف من محاسبة النفس ومساءلتها على ما ارتكبت في الماضي. ولم يسأل جيل الأبناء جيل الآباء عما فعله وعن مسؤوليته عما آلت إليه الأمور. ولم نخالفهم في الرأي إلا بعد انقضاء وقت طويل. أنا كنت في سن الـ44 يوم ابتعدت عن والديّ وألمانيا الشرقية. وكان عسيراً على والدي القس تقبل رحيلي إلى الغرب وعدم البقاء حيث ولدت والكفاح هناك.
وحسبتُ حين غادرت جمهورية ألمانيا الديموقراطية أنني أولد مجدداً وأترك ماضي ورائي، وحسباني لم يكن في محله. فأوالية إغفال الوقائع من أجل حماية النفس وتفادي الخوف تخلف أثراً عميقاً في النفس على شاكلة ندوب تأتلف منها بنية ما بعد توتاليتارية. وسكان ألمانيا الشرقية كانوا يشعرون بأنهم ينضوون في عائلة كبيرة ترعاها دولة أبوية. وأدركتُ لاحقاً أننا كنا نشعر بأننا مراهقون نصدع بأوامر «الدولة». وخلص السويسري ماريو إردهايم، وهو دارس إناسة وعلم النفس التحليلي، إلى أن الدولة الأبوية تحظر على «أبنائها» أن يشبّوا عن طوقها وأن يبلغوا الرشد وينعتقوا من القيود. وذات يوم، رافقتني صديقة من الغرب إلى حيث أقيم في الشرق، ولاحظت أن الشوارع تشبه باحة مدرسة مليئة بالتوجيهات والإرشادات. والناس انساقت وراء هذه الأبوية، وخضعت لمكانة الحزب الأبوية، وهذا عارض توتاليتاري. كانت حنا أرندت لتصفه بالقول: هو غياب الآخر كشخص مستقل ومنفلت من قيد السيطرة. والبنية التوتاليتارية تخلط بين المعتدي والضحية، والبنية هذه تعيق التفكير، وهو من بنات الحوار مع الآخر.
طي هذا الواقع إثر سقوط الجدار لم يكن يسيراً. فعندي مريضة ذاع صيت معارضتها نظام ألمانيا الشرقية، لكنها إثر سقوط الجدار، أصيبت بكآبة. وهي كانت متزوجة من رجل يؤيد النظام التوتاليتاري، لكنها لم تناقش مواقفه السياسية ونجحت في الاحتفاظ بقدر من حريتها. يوم كانت معارِضة، كانت تشعر بالانتماء إلى ألمانيا الشرقية، ولكن إثر تهافت الجدار، اضطرت إلى جبه هذا التناقض الداخلي: معارضة النظام والانتماء إليه. ولم تعد الحياة تجري على منوالها السابق، ووجب أن تواجه هذه المريضة ماضيها، فانهارت. وإثر توحد ألمانيا، لم يعد في وسعها توسل لغتين والجمع بينهما: المعارضة والذوبان والخضوع. وهذه معضلة واجهها كثر.
ويقال إن ثمة حنيناً إلى ألمانيا الشرقية. لكن قلة من المرضى الذين قصدوا عيادتي في غرب ألمانيا تكلموا على هذه المشكلة. وحين أقصد الشرق، أسمع قصصاً رهيبة في مركز العـــلاج النفساني الخاص بالأطفال والمراهقين. فثـــمة أهـل يرفضون الكلام على صلتهم بنظام ألمانيا الشرقية، وماضيهم تعفه الأسرار التي يتسترون عليها ويرغبون في نسيانها والبدء من جديد. كثيرون من الناس تأثروا بسقوط الجدار: ثمة مَن فقد عمله وشطراً مـــن هويتــه ولم يجد مكانه في البنية الجديدة. وتـــربطني صداقة بمجموعة من الأشخاص كانوا من معارضي ألمانيا الشرقية، وبعضهم اليوم يطعن في الرأسمالية، ويتفهم دواعي بوتين للعدوان على أوكرانيا. وقبل ثمانية أعوام، عرضت أمام هذه المجموعة ورقة بحث عن أطفال الحرب، ودار كلامي على الرضات النفسية والجروح التي لم تندمل ومعاناة جيلنا بسبب النزاع والقومية – الاشتراكية (الاجتماعية). ولاحظت أن أبرز من خلفت المرحلة هذه آثارها السلبية فيه هو أكثر من لا يرغب في سماع أي شيء عن الموضوع. وهو يرفض الإقرار بأن معاناة نزلت به، وهؤلاء هم مَن يتماهون اليوم مع بوتين. ولا شك في أن الحاجة تمس إلى تذليل هذه الأحمال النفسانية عبر تناول الماضي بالكتابة وروايته للأحفاد.
* محلّلة نفسية، عن «لوموند» الفرنسية (ملحق «كولتور إيه إيديه»)، 8/11/2014، إعداد منال نحاس.