استقلالية القرار الوطني
تاريخ النشر: الجمعة 08 يونيو 2012
القرار ببساطة هو اعتماد طريقة في العمل، ثم القيام بالتنفيذ. وقد أعطى علماء السياسة قدراً هائلًا من الاهتمام لدراسة القرارات متوسلين بكل ما أهدته فروع المعرفة الإنسانية في مجالات علم النفس والرياضيات والحاسوب. وظل الباحثون والخبراء زمناً طويلًا ينظرون إلى عملية اتخاذ القرار بوصفها عملية عقلانية ينتجها أشخاص يتمتعون برشد ودقة في التفكير والتدبير، يدرسون في إمعان الخيارات المتاحة والإمكانيات المتوفرة ثم يتخذون أفضل السبل في سبيل تحقيق الأهداف.
وقد بدا لهؤلاء أن عملية صنع القرار واتخاذه أشبه بعملية البيع والشراء في السوق التي يقوم بها "الإنسان الاقتصادي" Economic Man في سياق منافسة مثالية تتوافر فيها كافة المعلومات عن كل شيء يتعلق بالتسوق، وبالتالي يتمكن "الفاعل" من معرفة وفهم الأمر على حاله، دون نقص ولا زيادة، ومن ثم يقدم على فعل منضبط رشيد يقوده إلى جني الربح دوماً. لكن الواقعية برهنت على أن هذا التصور مثالي، فالسياسي، وأي شخص آخر، لا يمكن أن تتوفر لديه الظروف الطيعة المفهومة بالكامل، وبالتالي لا يرى الخيارات جلية ناصعة تتيح له أن يفاضل بينها ويحدد ما يريد دون خلط أو تشويش، بما يؤدي إلى الحصول على أفضل النتائج. فكثير من القرارات تحاط بقدر كبير من الغموض، وبعضها يجب اتخاذه على وجه السرعة لاسيما في أوقات الأزمات، ولذا يجازف الناس، في الغالب الأعم، وهم يتخذون قراراتهم.
وما سبق يبين أن استقلال القرار لا يعني بالضرورة رشادته أو ذهابه إلى الحصول على نتائج مضمونة ومثالية، وإنما يعني بالأساس صدور القرار عن إرادة كاملة، دون إملاءات أو ضغوط شديدة يمارسها طرف خارجي تدفع صانع القرار ومتخذه إلى الرضوخ لها والتصرف وفق مشيئتها أو فعل ما يحقق مصالحها. والقرار المستقل يروم تحقيق ما يفيد الوطن بالدرجة الأساسية، وبالتالي فمتخذه يكون وطنياً مخلصاً، ليس عميلًا ولا متواطئاً، أو لاهياً عن مصلحة بلاده أو متلاعباً بها، أو مقايضاً عليها بما يحقق أهدافه هو الشخصية، التي قد يكون من بينها بقاؤه في السلطة أو حصوله على امتيازات مادية كبيرة أو تغطيته عورات يملك طرف خارجي معلومات عنها ويوظفها في الضغط عليه. ولكن استقلال القرار ليس عملية إنشائية أو شعاراتية وإنما يجب أن ينبني على عناصر قوة متجسدة في الواقع، سواء في المجال المادي أم المعنوي والرمزي.
وهناك نموذج واضح لعدم استقلالية القرار الوطني، يمكن أن نطرحه في هذا المقام، يتعلق بالسياسة الخارجية المصرية أيام حكم مبارك، الذي وصفه مسؤولون إسرائيليون بأنه "كنز استراتيجي". ولم يكن المصريون بحاجة إلى مثل هذه الشهادة كي يدركوا تبعية السلطة السياسية التي تحكمهم للخارج، وتصعيرها خد مصر وإمكاناتها الكامنة والطافحة لخدمة أعدائها، والتصرف المتخاذل وفق القاعدة الشهيرة التي صكها الرئيس الراحل أنور السادات "99% من أوراق اللعبة في يد الولايات المتحدة الأميركية". ففي الحقيقة كانت تصرفات مبارك وأركان حكمه حيال البيئتين الإقليمية والدولية لا تخفى على أحد، ولا تكلف مصرياً واحداً، مهما كانت درجة ثقافته أو طبقته أو خلفيته المهنية، عناء التفكير في شكلها ومضمونها كي يبرهن على ارتهانها لإرادة غير وطنية. ولم تقف هذه التبعية الجارحة للخارج عند حدود السياسة الخارجية وإدارة العلاقات الإقليمية والدولية لمصر بل وصل الأمر إلى ربط قضية "توريث الحكم" بموافقة الغرب وإسرائيل، وتصرف النظام إما باعتبار موقف المصريين منها مضموناً أو غير مهم أو أنه لا يمكنه أن يشكل عقبة أبداً أمامها، بينما راح يبحث في واشنطن خصوصاً عن رضا بهذا المسلك. وهو ما ثبت خطؤه، ففي الوقت الذي كانت فيه الإدارة الأميركية تعلن مراراً وتكراراً أن هذه القضية محلية ولا دخل لها فيها وكل ما يعنيها هو الحفاظ على مصالحها في الشرق الأوسط قام المصريون بثورة يناير التي كان أول مكسب لها إسقاط التوريث تماماً.
فمع الثورة تعززت رغبة الشعب المصري في امتلاك قراره، الذي سُلب منه، أو استرداد قدرته على الفعل، بتوظيف طاقة مصر الكامنة، وصورتها الجديدة التي ولدت من رحم ميادين التحرير، ثم التحرك الإيجابي أو التفاعل الخلاق مع العالم الخارجي، تطبيقاً لأحد الشعارات الرئيسية للثورة، المتمثل في "الكرامة" التي لا تقتصر على توفير حد الكفاية للناس من غذاء وكساء ودواء وإيواء وتعليم وترفيه ولا على صيانة الحريات العامة إنما تمتد إلى الدفاع عن حقوق المصريين المنتشرين في مشارق الأرض ومغاربها، واستعادة هيبة الدولة بين مثيلاتها في العالم بأسره، بعد طول تفريط وتضييع واستهانة.
وهذه الغاية لا يمكن الوصول إليها إلا باستقلال القرار الوطني، وهي مسألة لا ينبغي أن تقف عند حد الشعارات والنداءات العاطفية وإنما تنزل إلى مجال الإجراءات العملية التي تهندس الخيال فتقربه من الواقع، وتجسد الأحلام فتجعلها تصرفات وسلوكيات تنتمي إلى عالم المحسوس والملموس. وهي في كل الأحوال تحتاج إلى جرأة لا تنزلق إلى حماقة، وشجاعة لا تنقلب إلى تهور، وهذا لن يتم إلا بتحصين الذات أولًا، عبر مسارات التنمية والاكتفاء، فحتى يكون قرارك من رأسك يجب أن يكون أكلك من فأسك. ثانياً بامتلاك الردع أو على الأقل القدرة على الصمود والتحدي. ثالثاً بتوظيف القوة المرنة للدولة المصرية التي لا تحتاج إلى جهد مضن كي تنجلي وتتهادى وتصبح في خدمة استقلال القرار، ثم توظيف رأس المال الاجتماعي، ومعرفة الفرق بين الواقعية السياسية والوقوعية، التي تعني الرضوخ التام.
فهذه مسارات تساعد في تحرير القرار الوطني واستقلاليته، وهي تبرهن على أن استقلال القرار الوطني ليس عملية إنشائية، تقف عند حد إطلاق الشعارات أو الوعود البراقة، وإنما هو اختيار يتأسس على حيازة العناصر التي تحصن هذا القرار وتقويه، وأولها تحقيق الاكتفاء الذاتي، عبر مشروع يقوم على "التنمية المستقلة"، وامتلاك القدرة الرادعة أو إمكانية الصمود والتصدي، ووجود دبلوماسيين محنكين، وتوظيف القوة المرنة، ورأس المال الاجتماعي.