استئناف نشاط الصالون الثقافي بلقاء حول الأدب والثورة

  • سلماوي: الأدب ما هو إلا ثورة على الواقع

كتب- مصطفى عبد المنعم :


تحت شعار الأدب والثورة استأنف الصالون الثقافي نشاطه من مقره الجديد ببرج الوزارة، وحضر اللقاء سعادة الدكتور حمد بن عبد العزيز الكواري وزير الثقافة والفنون والتراث وسعادة السيد مبارك بن ناصر آل خليفة الآمين العام وعدد كبير من الكتاب والأدباء والمفكرين، ليستمعوا الى الكاتب والروائي محمد سلماوي رئيس اتحاد الكتاب العرب والمصريين في لقاء يدور الحديث خلاله حول الأدب والثورة وبدأ اللقاء بتقديم وترحيب بالحضور من الدكتورة فاطمة السويدي التي رحبت بسلماوي مشيرة الى ان اختياره لم يكن صدفة لانه صاحب تجربة روائية استشعرت احداث الربيع العربي، كما تحدثت عن اهمية الصالون الثقافي من حيث انه يوفر مجموعة من الفرص التي تتطلبها المرحلة الراهنة للثقافة في قطر، خاصة ان الاعلام القطري بات أكثر انفتاحا شأنه شأن السياسة القطرية على أحداث الربيع العربي بشكل واسع ومؤثر وفعال.


وقالت السويدي: ان الكاتب سلماوي سيحدثنا اليوم عن الأدب في ضوء الربيع العربي ولكن في البداية هناك كلمة لسعادة الدكتور حمد بن عبد العزيز الكواري وزير الثقافة.

ومن جانبه قال وزير الثقافة: ان المتحدث الرئيسي هذه الليلة هو الاستاذ محمد سلماوي لذلك فان مداخلتي ليس لها علاقة بما سيتحدث عنه خاصة ان هذا الرجل عندما يتحدث فعلينا ان نستمع، وانما أردت ان أشير الى ان هذه القاعة ليست هي القاعة التي نستهدف ان نقيم فيها الصالون الثقافي ولكن نظرا لان القاعة الكبرى التي من المقرر ان تحتضن اللقاء ليست جاهزة بعد لأنها ضمن "بيت الحكمة" وهو الاسم الذي اخترناه للطابقين الأول والثاني اللذين سيضما العديد من الانجازات الثقافية، وهذا الاسم تم اختياره لما له من دلالات حيث تثبت قطر بأفعالها ومنجزاتها ان بيت للحكمة، واضاف وزير الثقافة:اعدكم ان يكون لقاؤنا في بيت الحكمة قريبا موضحا انه سيتضمن مسرحا يتسع لـ 200 شخص وقاعة سينما ومكتبة وقاعة ندوات وغيرها جميعها، ولفت دكتور الكواري الى أهمية دور الصالون الثقافي الذي سينعقد احيانا في بيت الحكمة واحيانا في الحي الثقافي "كتارا" الذي نفخر به وبمنجزاته، مؤكدا ان الثقافة تنتعش وتحيا وينمو الابداع عندما يرتبط بالتنمية لذلك نحن وفقنا كل التوفيق في أن يكون أول لقاء في هذا المكان العظيم للحديث عن الأدب والثورات وان يكون ضيفنا هو الأستاذ محمد سلماوي.


وبدأ سلماوي حديثه قائلا: كل مثقف عربي يسمع عما تفعله الدوحة في مجال الثقافة يسعد كلما يحضر اليها، وكلما حضرت الى الدوحة وجدت هذا الانجاز يزداد مما يجعلنا نزداد فخرا ان الثقافة العربية ستقطع اشواطا الى الامام.


من اجل هذا لم اتردد تماما في الحضور الى الدوحة لافتتاح الصالون الثقافي في هذا الصرح الجديد ولانني سألتقي بأصدقاء من المثقفين ممن اعتز بهم كثيرا.
وأضاف قائلا كثيرًا ما قال لي الزملاء الصحفيون عند حديثهم معي حول رواية "أجنحة الفراشة": لا بد أنك لم تفاجأ بثورة يناير لأنك تنبأت بتفاصيلها في روايتك. لكني كنت أقول إنني من أكثر من فوجئوا بالثورة، فان يكتب الإنسان عملاً أدبيًّا نابعًا من خياله شيء، وأن يراه فجأة وقد تحقق أمامه في ميدان التحرير شيء آخر.


لكن الحقيقة أن صفة التنبؤ بالثورة التصقت بالرواية في معظم ما كتب عنها، وأذكر أن الكاتب الصحفي عبد الرحمن الراشد كتب في عموده اليومي بجريدة "الشرق الأوسط" وكانت الثورة مازالت في بدايتها: لو أن السلطات في مصر كانت تقرأ الروايات بدلاً من التقارير الأمنية لوفرت على نفسها الكثير مما حدث لها في ميدان التحرير.


وقد كان من نتيجة ذلك أن وضع الناشر على غلاف الطبعات التالية من "أجنحة الفراشة" عبارة "الرواية التي تنبأت بثورة 25 يناير".
فما هي قصة التنبؤ هذه؟ وهل صحيح أن الأدب يتنبأ بما هو آت؟ ثم ما هي علاقة الأدب بالثورة أصلا؟ إن الأدب يعبر عن أرقى المشاعر والأحاسيس الإنسانية بينما تستدعي الثورة قدرًا من العنف - قد يزيد أو ينقص- من أجل إحداث تغيير جذري في المجتمع.


الحقيقة هي أن الأدب والثورة متلازمان، فالأدب ما هو إلا ثورة على الواقع، وما من أديب يكتب كي يقول إنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وإنما هو يكتب من موقع الثورة على ما هو قائم، وهو يكتب كي يحدث ذلك التغيير الجذري الذي تطمح إليه الثورات، وإذا كانت الثورات قد غيرت المجتمعات، فكم من الكتب غيرت وجه الحياة، بل إن الأدب عادة ما يستبق الثورة، فالأدب هو وقود الثورة وبدونه قد يصعب قيام الثورة لأنه ينقد الحاضر مستشرفًا المستقبل الذي تسعى الثورة بعد ذلك لتحقيقه، لأن المرء لا يعيش مكتفيًا بحاضره وإنما هو يسعى طوال الوقت من أجل المستقبل، وهذا يتطلب أن يشحذ الإنسان عقله ليحاول تبين طبيعة هذا المستقبل المجهول، والإنجازات الفكرية الكبرى على مدى تاريخ الإنسان كانت دائمًا تلك التي لا تنظر فقط إلى موقع الأقدام ما بين الخطوة الحالية وتلك التي تليها وإنما حاولت استشراف العالم الذي سنلقاه في نهاية الطريق، وهي بذلك إنما تساهم بقدر أو بآخر في صنع هذا العالم الجديد.


إن محاولة استشراف المستقبل كان دائمًا الشغل الشاغل للفكر الإنساني سواء كان ذلك في الأدب أو في السياسة أو في العلم، ففي الفكر السياسي مثلاً نجد كارل ماركس يتحدث في القرن الـ19 عن مجتمع المستقبل فيقول إن الثورة الاشتراكية ستكون هي النتيجة الحتمية للرأسمالية وإن الطبقات العاملة ستثور في أكثر الدول الصناعية تقدمًا لتقلبها إلى الشيوعية.


ولقد أجرت هيئة الإذاعة البريطانية BBC في بداية هذا العقد استطلاعًا فكريًّا خلصت منه إلى أن كارل ماركس هو المفكر الذي سيطرت أفكاره أكثر من غيره على القرن العشرين، ومع ذلك نجد أن تنبؤات كارل ماركس باءت في الكثير منها بالفشل، فبداية لم تنشأ الشيوعية في أكثر الدول الصناعية تقدمًا والتي كان يقصد بها بريطانيا وإنما نشأت في أكثر الدول الريفية تخلفًا وهي روسيا القيصرية والصين، كما أن ديكتاتورية "البروليتاريا" التي قال إنها ستجيء نتيجة لسواد الطبقة العاملة والتي ظلت أجيال من الاشتراكيين في العالم تنتظر قدومها لم تتحقق، وما حدث هو أن انتشار الميكنة والثورة التكنولوجية التي شهدها العالم منذ نهايات القرن العشرين جعلت من يعملون في قطاع الخدمات في العالم يفوق بكثير عدد عمال المصانع.


وقد خابت آمال كارل ماركس بسقوط الماركسية اللينينية في العالم وانتصار الرأسمالية، لكن هيئة الإذاعة البريطانية مع ذلك كانت على حق، فقد طغى تأثير أفكار كارل ماركس الاشتراكية على الفكر السياسي في العالم أكثر من غيره فتأثرت به كل النظم السياسية، بل إن انتصار الاقتصاد الحر في العالم يعود في جانب منه إلى تأثره بالأفكار التي طرحها كارل ماركس، فالرأسمالية السائدة اليوم في العالم لم تعد رأسمالية آدم سميث وإنما هي فكر سياسي يعتمد على آليات السوق لكنه يسعى للحيلولة دون الاحتكار، ويعترف بأهمية تحقيق العدالة الاجتماعية وتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين.


ولقد توارى كتاب كارل ماركس الشهير "رأس المال" Das Kapital في السنوات الأخيرة كمرجع أساسي وراء كتابات أخرى تتحدث الآن عن الطريق الثالث وعما أصبح يعرف باسم اقتصاد السوق الاجتماعي Social Market Economy، لكني أجد في ذلك الكتاب مقولة ثاقبة لكارل ماركس لا علاقة لها بالسياسة أو الاقتصاد وإنما تتصل اتصالاً مباشرًا بحديثنا اليوم عن "الأدب والثورة" لأنها تتعلق بالخيال الإنساني الذي هو الأساس الذي يعتمد عليه الأديب في استشرافه للمستقبل.


ففي "رأس المال" يقول كارل ماركس: "إن العنكبوت يقوم بأعمال تشبه ما يقوم به النساجون، والنحلة قد تخجل الكثير من المعماريين في بنائها لخليتها.. لكن ما يميز أسوأ معماري عن أفضل أنواع النحل هو أن المعماري يشيد معماره في الخيال قبل أن يقيمه في الواقع".


إن خيال الإنسان هو الذي يمكنه من تخيل نهاية الطريق وهو مازال في أوله، وهو الذي يمكنه من التنبؤ بالمستقبل قبل أن يحل، فإذا أخذنا مسألة الثورة التي هي موضوع حديثنا اليوم، نكاد نقول إنه ما من ثورة قامت في العالم إلا ومهد لها المفكرون والأدباء بكتاباتهم، بل قد نقول إنه لولا تلك الكتابات التي نشرت أفكار الثورة من الحرية والعدل والإخاء إلى الديمقراطية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية ما قامت الثورات الكبرى في العالم.


ولسنا بحاجة للتدليل على ذلك بالثورة الفرنسية على سبيل المثال، والتي كان وقودها هو كتابات التنويريين الفرنسيين الذين بشروا بقيم الحرية والمساواة والإخاء، ولم يكن وقودها الظلم والطغيان وحدهما، فقد دام كل من الظلم والطغيان عقودًا طويلة لكن فقط حين انتشرت كتابات فولتير ومونتسكيو وجان جاك روسو وديدرو أصبحت الثورة ممكنة.
كما أن لنا في ثورة يوليو 1952 العربية مثالاً آخر حيث أكد قائدها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر أن رائعة توفيق الحكيم الروائية "عودة الروح" كانت أحد أهم العوامل التي ألهمته القيام بالثورة.


ولما كان الأدب أكثر الأنشطة الفكرية اعتمادًا على الخيال، مقارنة بالكتابة السياسية أو العلمية مثلاً، فقد كان الأدب على مر العصور وسيلة العقل البشري في التنبؤ بالمجتمعات القادمة مثلما وجدنا مثلاً في روايات البريطاني إريك آرثر بلير والذي عرف باسمه المستعار جورج أورويل، ففي روايتي "مزرعة الحيوانات" و"1984"، على سبيل المثال يصور لنا أورويل مجتمعات المستقبل التي تسيطر عليها الميكنة ويسيرها الفكر المادي، كما نجد نفس الشيء في رواية أولدوس هكسلي الشهيرة Brave New World أو "العالم الجديد الجريء"، ولكن إذا كان أورويل قد ركز نقده على المجتمعات البولشفية الستالينية التي أوجدتها الأيديولوجية الماركسية اللينينية، فإننا نجد هكسلي ينتقد المجتمع الاشتراكي والرأسمالي معًا واللذين يرى أنهما سائران إلى المادية والميكنة التي تلغي العنصر الإنساني بنفس القدر في الحالتين، وهو ما تحقق إلى حد كبير حيث لم يقتصر الفكر المادي على المجتمعات الاشتراكية وحدها.


على أن الأدب يتخطى تخيل نتائج الاتجاهات الفكرية العامة التي تسيطر على المجتمع، وقد يصل إلى التنبؤ بالاختراعات العلمية والتي لم تكن تدور بخلد العلماء أنفسهم مثل الغواصة والتليفزيون ورحلات الفضاء والتي ورد ذكرها في كتابات الروائي الفرنسي جول فيرن "رحلة إلى باطن الأرض" و"من الأرض إلى القمر" و"20 ألف فرسخ تحت البحر"، أو في كتابات نظيره البريطاني ه.ج.ويلز "حرب العوالم" و"آلة الزمن" و"الرجل الخفي".


ولقد جرى هذا العام اكتشاف رواية غير منشورة لجول فيرن كتبها عام 1863 وتنبأ فيها بالشكل الذي ستكون عليه الحياة في باريس بعد ذلك بمائة عام، وقد كان معروفًا أن فيرن كتب مثل هذه الرواية لكن كان يعتقد أن نصها قد فقد إلى أن عثر عليه منذ شهور فقط وتم نشره في فرنسا ومن المنتظر أن تلقي الرواية مزيدًا من الضوء على جول فيرن باعتباره صاحب رؤية مستقبلية فريدة.


وإذا كانت كتابات أورويل وهكسلي قد جاءت في أواسط القرن العشرين فإن بداية ما يعرف باسم أدب الخيال العلمي Science Fiction جاءت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على أيدي فيرن وويلز، وإن كانت هناك رواية نادرة لفولتير تحمل اسم Micromegas تتحدث عن السفر بين الكواكب وقد كتبها قبل ما أصبح يعرف بأدب الخيال العلمي بـ150 عامًا وبالتحديد عام 1752، وهي تعتبر إرهاصًا فريدًا بما سيأتي لاحقًا.


أما اليوم فقد أصبح الخيال العلمي جنسًا أدبيًّا معترفًا به حيث نجد في الولايات المتحدة مثلاً كتابات راي برادبيري Ray Bradburry وفرانك هيربرت Frank Herbert وغيرهما ممن يكتبون مثلاً عن وجود أشكال من الحياة العاقلة فوق الكواكب الأخرى أو عن كائنات حية قادمة من الفضاء.


إن الأدب هو الرصيد الوجداني للإنسان والممتد عبر العصور، لذلك نجد أن الاختراعات والاكتشافات العلمية ذاتها تقتفي أثر ذلك الرصيد الإنساني الثري، فحين توصل سيجموند فرويد، أبو علم النفس الحديث، إلى نظرياته في علم النفس استعان بذلك التراث الأدبي في توصيف السلوك الإنساني، فكانت الدراما الإغريقية هي أول من تحدث عن عقدة أوديب أو عقدة إلكترا، أو غير ذلك من الانحرافات السيكولوجية التي دلل عليها فرويد بالأدب الكلاسيكي.


وإن رواية "أجنحة الفراشة" التي صدرت في بداية شهر يناير 2011 تنتمي إلى هذا التقليد الأدبي الذي تنبأ بما هو آت، وهو ما لم أكن أعرفه وقت كتابتي للرواية، لكني اكتشفته بعد قيام ثورة 25 يناير في مصر، فالرواية كتبت عام 2010 وسلمت في سبتمبر من ذلك العام للناشر الذي قرر إصدارها مع معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي كان مقررًا إقامته في يناير 2011.


وهي رواية تصور الحياة السياسية التي كانت سائدة في مصر قبل الثورة والتي كانت تعج بالمظاهرات والاعتصامات وشهدت مصر خلالها قيام حركات سياسية احتجاجية متعددة مثل "كفاية" و"6 أبريل" و"الجمعية الوطنية للتغيير" وغيرهم، وهي تقوم على مجموعة من الشخصيات التي تبحث عن تحقيق ذاتها في هذا المجتمع الذي يبدو في حالة فوران وهو يبحث أيضًا عن تحقيق ذاته.


ولقد قادني هذا الموقف الروائي في تسلسله من خلال الأحداث الروائية إلى قيام ثورة عارمة تندلع في ميدان التحرير ثم تنتقل إلى سائر المدن المصرية من السويس إلى أسوان، يفجرها الشباب الثائر مستخدمًا وسائل الاتصال الحديثة من الإنترنت إلى الهواتف النقالة، ومع تأزم الأمور يرفض الجيش تنفيذ الأوامر الصادرة إليه بالتصدي للثورة إلى أن يسقط الحكم.


ولقد بدت نهاية "أجنحة الفراشة" قبل الثورة صادمة لمن قرأها، وأذكر أن الصديق الشاعر والروائي الفلسطيني أمجد ناصر قد قرأ النص قبل اندلاع الثورة فقال لي إنه يأخذ على الرواية نهايتها الخيالية التي وصفها بلغة النقد بأنها كانت إرادية أكثر من اللازم، لكني كنت أشعر أن تلك هي النتيجة الحتمية التي أوصلتني إليها أحداث الرواية.
وما هي إلا أيام وتحققت نبوءة "أجنحة الفراشة" وحين ذكرت هذه الملاحظة لأحد الأصدقاء اللبنانيين ونحن في ميدان التحرير قال ضاحكًا: تلك هي مصر القادرة دائمًا على تحويل الخيال إلى واقع.


وأنهي حديثي قائلاً: ذلك هو الأدب الذي يستشرف المستقبل فيقدم لنا مجتمع الغد سواء من الناحية السياسية أو العلمية أو غير ذلك، وربما كان هذا ما قصده الكاتب الأيرلندي الشهير أوسكار وايلد حين قال: الفن لا يحاكي الحياة، وإنما الحياة هي التي تحاكي الفن.

Leave a Reply