رودنسكو: فرويد حرق النازيون كتبه رغم أنه لم يعر اهتماما لصعودهم
كثيرة هي الكتب التي صدرت حول الحياة الشخصيّة لعالم النفس سيغموند فرويد (1856-1939)، وخاصة حول مسيرته الفكرية المديدة التي أحدث خلالها “ثورة” في مجال علم النفس. ويعتبر كتاب “فرويد” لبيتر غراي الصّادر قبل 25 عاما واحدا من أهم هذه الكتب. وقبل بضع سنوات أصدر الفرنسي ميشال أونفري كتابا حمل عنوان “غروب صنم”، دمّر فيه ما سمّاه بـ”أسطورة فرويد”، واصفا إياه بأقبح الأوصاف وأبشعها، مستعرضا البعض من الفضائح التي وسمـت حياته عندما كان في أوج الشهرة والمجد.
مطلع خريف هذا العام 2014، صدر في فرنسا كتاب للمؤرخة المرموقة إليزابيت رودنسكو حمل عنوان “فرويد”، فيه تقدّم تفاصيل جديدة عن مسيرة فرويد الفكرية والفلسفية، وعن الجوانب الخفيّة في حياته الشخصيّة.
تقول رودنسكو: “طموحي في هذا الكتاب هو أن أبرز أنه -أي فرويد- عاش وفكّر في مجتمع فريد من نوعه: مجتمع يهود من فيينا في منعرج القرن العشرين. وأنا أعتقد أنه ليس باستطاعتنا فهم فكره إلاّ إذا ما نحن وضعناه في سياق تاريخي حدثت فيه تحوّلات على المستوى العائلي، وعلى مستوى الطب، والقضايا الثقافية السائدة في ذلك الوقت. وعلى مدى وقت طويل، كان لعلماء النفس مفهوم لاتاريخيّ لعلم النفس الذي بدا وكأنه برز كسحر بلا أيّة صلة مع سياقه التّاريخيّ. من هنا تلك الأساطير التي لا بدّ من دحضها”.
احتقار الطلبة
تتابع رودنسكو قولها: “والحقيقة أن فرويد ظلّ لوقت طويل يتلمّس طريقه، وقد ضلّ هذا الطريق أكثر من مرّة. كما تأثر بالنظريات العلميّة التي كانت رائجة في عصره، وتألّم كثيرا وتناقش طويلا مع المثقفين، وقد أظهرت لنا مراسلاته أنه يدين بالكثير لمثقفي وعلماء زمنه”.
وتشير إليزابيت رودنسكو إلى أن فيينا أصبحت في منتصف القرن التاسع عشر قبلة لليهود القادمين من روسيا، ومن مولدافيا، ومن مناطق أخرى من أورويا الشرقيّة، وقد تمكّنت عائلة فرويد التي هاجرت إليها من التكيّف مع المجتمع الليبرالي الجديد الذي كان آنذاك في فترة النشوء.
وفي البداية كان هذا المجتمع يتكون من مصرفيين، ومن تجّار، غير أنه سرعان ما تغير ليصبح مكوّنا أساسا من ناشرين، وصحافيين، ومؤرخين، وفلاسفة، وشعراء.
وفي شبابه كان سيغموند فرويد مفتونا بشخصّية القائد الشهير حنبعل، وكان يتماهى معه، محتقرا الطلبة الذين كانوا ينعتونه بـ”اليهوديّ القذر”، بل وأكثر من مرّة تشاجر معهم أمام الملإ مظهرا صلابة مدهشة، وهذا ما سيكسبه جرأة في تحدّي خصومه، وفي دحض الأفكار المسبقة.
وكان فرويد متعطّشا للعلم والمعرفة، في البداية كان يرغب في أن يكون شخصيّة سياسيّة، لكنه تخلّى عن حلمه هذا ليقرّر أن يكون فيلسوفا، ثمّ رجل قانون، ثم عالم طبيعة، وفي الآن نفسه فكر في أن يقوم بجولة حول العالم، مقتفيا آثار شارل داروين الذي بات من شخصيّاته المفضّلة، معتبرا أن نظرياته “تسمح بتحقيق تقدّم مذهل وخارق لفهم العالم”.
فرويد اقتفى آثار داروين الذي بات من شخصياته المفضلة
صديق موسيليني
وكان أيضا مفتونا بسقراط، وبكريستوف كولومبوس، وفي سنّ الرابعة والأربعين تحقّقت لفرويد شهرة واسعة بفضل ما ابتكره من وسائل ونظريات في مجال علم النفس، لذلك أصبح محاطا بجمهرة من المعجبين والمعجبات، أغلبهم كانوا من اليهود، معهم كان يتجادل طويلا في بيته مساء كلّ يوم أربعاء.
وعلى المستوى العائلي، وبعد أن أصبح أبا لستة أطفال،فترت علاقة فرويد الجنسيّة مع زوجته مارتا التي أحبّها في سنوات شبابه، ومنذ ذلك الحين، انصبّ اهتمامه على دراسة الحياة الجنسيّة من خلال الأحلام، وقد وجد خصومه الفرصة لمهاجمته بدعوى أنه “فاسق”، وأنه من دعاة “الاستنماء”.
ولم يعر فرويد اهتماما كبيرا لصعود النازّية في مطلع الثلاثينات من القرن الماضي، وكان يعتقد أنه في مأمن من مخاطرها، لذلك لم يعر أيّ اهتمام لنصائح أصدقائه الذين كانوا قد شرعوا يعدّون أنفسهم للهروب إلى المنافي، وهذا ما يفسّر تقرّبه من المستشار المحافظ أنغلبرت دولفوس الذي كان من أصدقاء موسيليني، وصمته عنه عندما قام هذا الكاثوليكي الفاشي، والمتعصّب بإلغاء الحق في الإضراب، وباستحداث قانون ضدّ صحف المعارضة التي كان يشرف عليها يساريّون ماركسيّون واشتراكيّون.
ولم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، بل قام فرويد بإهداء كتاب إلى موسيليني، وفي نصّ الإهداء كتب يقول: “إلى بينيتو موسيليني مع التحيّات الخالصة لرجل عجوز يرى في رجل السلطة بطلا للثقافة”. وفي ربيع عام 1933، أصدر غوبلس وزير الإعلام في الحكومة النازيّة قرارا يقضي بحرق 20 ألف كتاب لمؤلفين يهود، تمّ ذلك في برلين أمام أساتذة وطلبة، وجنود كانوا ينشدون الأناشيد النازية الحماسيّة، وقد علّق فرويد على ذلك قائلا: “أيّ تقدّم نحقّقه نحن راهنا؟ في القرون الوسطى كان بالإمكان أن يقوموا بحرقي، أما الآن فهم يقتصرون على حرق كتبي!”. وبعد أن ضمّ النازيّون النمسا إلى ألمانيا عام 1938، فرّ فرويد إلى لندن ليموت هناك عام 1939.